Print this page

حرب الهوامش الحلبية

25 تشرين1/أكتوير 2016
 
هجرة مركبة، مناطقية وطبقية وإثنية، رسمت شكل مدينة حلب المعاصرة. وعدا عن التقسيم الواضح بين حَلَبين؛ شرقية وغربية، يبدو أن أكثر من حلب أخرى نمت خلال الأعوام الستين الماضية على تخوم الانتماءات الأهلية المتنوعة للوافدين الجدد إلى أطراف المدينة الكبرى.

شرقية وغربية

حلب الشرقية، التي تسيطر عليها المعارضة حالياً، لم تكن سوى حزام فقر، بدأ مع "دولة الوحدة"، وتسارع نموه منذ انقلاب حزب "البعث العربي الاشتراكي" مطلع الستينيات من القرن الماضي. فمراسيم الإصلاح الزراعي التي توجهت لإضعاف الأرستقراطية الإقطاعية، وهي الطبقة السياسية الحاكمة السابقة على "البعث"، تسببت في تضاؤل الحيازات الشخصية وانخفاض مردود الزراعة، وشكّلت مدخلاً لبداية تهميش الريف وقواه السياسية، لمصلحة تحالف النظام والبرجوازية المدينية.
وفي حين وجدت الأقليات الريفية/الطائفية، مدخلاً أوسع إلى "الدولة" عبر الشبكات الزبائنية والقرابية، بقيت الأكثرية السنية الريفية الأكثر تضرراً وتهميشاً، وسط معدلات نموها السكانية العالية جداً. الأمر الذي دفع بها إلى أحزمة الفقر والعشوائيات، والتوسعات السرطانية على أطراف المدن الكبرى. وبحسب تقريرٍ سابق لـ"الأمم المتحدة"، في أواخر الثمانينيات، فالريف الحلبي الجنوبي هو من أشد المناطق فقراً في العالم، وقامت المنظمة الدولية بتمويل مشروع "جلّ الحص" الإنمائي للمساعدة فيه.
وحلب منذ ما قبل دخولها الثورة، كانت تعيش انقسامها الخاص؛ الشرقية للطبقات الفقيرة، والغربية للشرائح الوسطى والطبقات العليا. الشرقية، للوافدين من الأرياف القريبة، على تلاوينهم الثقافية والإثنية، ومن "المُفقرين الجدد" الهابطين إلى حدود الفقر من غير القادرين على تحمل تكاليف البقاء في الغربية. والغربية، للشرائح العليا من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصناعية والتجارية الحلبية، وللصاعدين طبقياً من الشرقية والأرياف.

مع الثورة، ودخول العمل المسلح إلى حلب، صار الفرز واضحاً؛ حلب الأغنياء تحت سيطرة النظام، وحلب الفقراء مع المعارضة. لكن، هل هذه صورة كاملة؟

حَلَبان: معارضة وموالية

منذ منتصف العام 2012 دخلت المعارضة مدينة حلب، ومع الوقت سيطرت على 80 حيّاً فيها يقطن فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون شخص، وتشمل معظم أحياء حلب الشرقية، ونسبة 65 في المئة من كامل المدينة. ففصائل المعارضة المنتمية والمتشكلة في أرياف حلب، امتدت إلى حيث الحواضن الاجتماعية لها، بالمعنى المناطقي، في حلب الشرقية.

ساحة باب الفرج ، مدينة حلب 1968
ساحة باب الفرج ، مدينة حلب 1968

والشرقية في معظمها، هي مناطق توسع وعشوائيات، نَمَت على الطرف الشرقي للمدينة القديمة، وتوسعت شمالاً وجنوباً، خلال أكثر من نصف عقدٍ مضى. وغالبية سكان الشرقية، ما عدا حلب القديمة، هم من أبناء الريف. ومعظم أحياء الشرقية تُعتبر مناطق فقيرة بالمقارنة مع الغربية، حتى أن بعض المواقع في مساكن هنانو والأرض الحمرا افتقرت إلى الشوراع الإسفلتية. هذا عدا عن غياب الخدمات الرئيسة لمعظم أحياء الشرقية، وغياب حضور الدولة "الخدمي" لمصلحة التركيز على حلب الغربية، مدينة الأغنياء.
الصحافي عقيل حسين، أوضح أن الهجرة من الريف إلى المدينة، بدأت مع تأميمات "دولة الوحدة" في عهد جمال عبدالناصر، وفتح باب التعليم للفقراء، الأمر الذي ترافق مع بداية نهاية المهن والحرف التقليدية في الأرياف القريبة.
وتركزت هجرات أهل الريف في مناطق محددة ضمن أحياء الشرقية، رسمت خطوطاً متمايزة للمنشأ المناطقي لكل مجموعة. فسكن أبناء الريف الجنوبي في أحياء السكري والصالحين والشيخ سعيد والفردوس. في حين استقطبت كرم الميسر والشعار وطريق الباب والصاخور والمواصلات أبناء الريف الشرقي. واستقر أبناء الريف الشمالي في الحيدرية والهلك وبعيدين والشيخ فارس والشيخ خضر.
المنشأ المناطقي لهجرة الريف إلى المدينة، حمل معه أيضاً بصمات المهاجرين الإثنية؛ مع التركمان والأكراد والماردلية والعشائر العربية، بالإضافة طبعاً إلى مخيمين فلسطينيين؛ حندرات والنيرب.
الهجرة إلى الشرقية، شهدت عمليات تفارق وتمايز طبقي بدورها، وتمايزت أحياء عن الأخرى، وكلما اقتربت المنطقة من حلب القديمة ارتفع مستوى العيش فيها. كما أن هجرة داخلية أشد التباساً ظلت تحدث بين الشرقية الغربية؛ فالأغنياء الجدد الصاعدون في الشرقية سرعان ما وجدوا طريقهم إلى الغربية، في حين أن مَن يفقد منزلته الطبقية في الغربية يجد ملاذاً له في الشرقية.
وكانت حلب الغربية قد شهدت هجرة ريفية، منخفضة الحدّة، من أغنياء ووجهاء الريفين الغربي والشمالي. وحتى الثمانينيات كان شارع النيل وحي سيف الدولة في الغربية، مستقراً لموظفي الدولة، ممن يعتبرون من الشرائح الوسطى. بعد الثمانينيات أصبح تكيّف الموظفين مع تكاليف المنطقة أكثر صعوبة، بالتزامن مع تدني قيمة صرف العملة وسقف الدخل المحدود، الأمر الذي دفع موظفي القطاع العام الوافدين من الريف للبحث عن سكن لهم في الشرقية.
في حلب الغربية 300 ألف مسيحي وأرمني، بعضهم مهاجرٌ من الحسكة، يقطن موسروهم وأغنياؤهم السليمانية والعزيزية، في حين يسكن فقراؤهم الميدان وامتداده في بستان الباشا بالتشارك مع التركمان والأكراد. "بستان باشا" التركمان صارت في يد المعارضة، في حين بقيت أجزاؤه المسيحية والكردية في يد النظام.
الصحافي خالد الخطيب، قال إن كل شيء كان مختلفاً بين الشرقية والغربية، وعلى جميع الأصعدة، منذ ما قبل الثورة. وإذا خلت الشرقية من الطبقات العليا بفعل الفرز التاريخي المستمر، ففي الأجزاء التابعة للمعارضة من حلب القديمة، وبعد المعارك التي شهدتها بين العامين 2012 و2013، هاجر أثرياؤها إلى الغربية، ومَن بقي فيها هم من الشرائح الدنيا في الطبقات الوسطى والفقراء.
لكن، لماذا لم تنتشر العشوائيات على الأطراف الغربية لحلب الغربية؟ الجواب يبدو كامناً في تركز انتشار المناطق الصناعية والمعامل على أطراف الشرقية. وعلى الرغم من وجود حزام معامل شمالي حلب، من الليرمون إلى حريتان، إلا أن تلك المناطق لم تصبح سكنية كما هو الحال في جوار معامل الشرقية. وإذا كان إنجاز "المنطقة الصناعية" في الشيخ نجار قد تأخر حتى أواخر التسعينيات، إلا أن أطراف الشرقية كانت موطناً للكثير من المعامل والمحالج والمطاحن ومعامل الزيوت والنسيج، البعيدة نسبياً من مركز المدينة. وغالباً ما عمل سكان الشرقية في تلك المعامل، وقطنوا قربها، وقاموا بحراستها. البرجوازية الصناعية من حلب الغربية، أقامت صناعاتها في الشرقية حيث العمالة الرخيصة.
حتى "معامل الدفاع" التابعة لوزارة الدفاع، أقيمت جنوبي حلب الشرقية. والمعامل استخدمت عمالة مدنية من حلب الشرقية في صناعاتها غير القتالية، كالصابون والزيت. وغالباً ما تهكم الحلبيون بالقول إن موظفي "معامل الدفاع" من الغربية، وعمالها من الشرقية.
 
حلبيو حلب

التقسيم الاجتماعي/الطبقي لسكان المدينة، بما يتوافق مع خطوط الصراع معارضة/موالاة، يبدو زائفاً قليلاً؛ فالعقبات أمام هذا التفسير، تظهر مع تتبع خطوط الانقسام الإثني والثقافي.
وإذا رصدنا الأطراف المحلية المشاركة في الصراع الراهن، نجد بالإضافة إلى العرب السنة، ثلاث جماعات متمايزة: الفلسطينيون قاطنو مخيم النيرب جنوب شرقي حلب ومخيم حندرات شمال شرقي حلب، والأكراد سكان حي الشيخ مقصود شمالي حلب، وخليط من العشائر العربية والماردلية الموزعين في مناطق مختلفة من حلب الشرقية.
 
فلسطينيو حلب

مسيرة اللجوء الفلسطيني كانت قد وصلت ريف حلب الشرقي منذ العام 1949، عندما أُعطيت لهم ثكنةٌ عسكرية فرنسية قديمة في النيرب، سكنوا مهاجعها واستخدموا حماماتها الجماعية. كل مجموعة عائلات أعطيت "براكس"، تقاسمته بتقطيعه ببطانيات ثم بجدران بلوك، قبل أن يبيع البعض حصصهم للبعض الآخر. ويعتبر مخيم النيرب من أفقر المخيمات في سوريا، وهو على خلاف مخيمات دمشق وحمص، بعيدٌ من مركز المدينة، إذ أقيم بالقرب من منطقة عسكرية أنشئ فيها مطار النيرب، ولم تفصله عن المخيم سوى الأسلاك الشائكة.
في دراسة بعنوان "أثر المتغيرات في سوريا على فلسطينيي سوريا وكياناتهم السياسية" يُميّزُ الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، بين مرحلتين للنشاط السياسي للاجئين؛ الأولى تشمل بدايات اللجوء، وافتقد فيها الفلسطينيون الكيانات السياسية، فانخرطوا في الحركات والأحزاب الموجودة في مناطق اللجوء. حالة مخيم النيرب، تبدو مطابقة لهذا التمييز الأولي، الأمر الذي ساعد الأنظمة السورية المتعاقبة على اختراق النسيج الاجتماعي والسياسي لمخيم النيرب، تاريخياً. كما أن بُعد المخيم من حلب وفقر سكانه، جعله أشبه بمعسكرٍ معزول عن العالم المحيط به، ما ساهم في المراحل التالية، في إضعاف نفوذ الفصائل الفلسطينية فيه، وسيطرة المخابرات السورية وحزب "البعث" عليه. حتى "حركة فتح" كانت ضعيفة الحضور، في حين أن تنظيمات سورية كـ"الحرس القومي" كان لها دورٌ كبير فيه.
قُبيل الثورة السورية كان 300 ألف شخص يقطنون مخيم النيرب، ضمن مساحة لم تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، انتشرت فيها أربع مفارز أمنية.
على العكس من النيرب كان مخيم حندرات أفضل حالاً لسكانه، فجبل حندرات المشرف على نهر قويق بالقرب من المشفى والسجن، كان أملاك دولة استأجرتها "وكالة الغوث" نهاية الستينيات، وعرضت على سكان النيرب أن يستلموا الأرض ويعمروا فيها بيوتاً صغيرة من الحجر. وسرعان ما حوّل اللاجئون، وهم في الأصل فلاحو الشمال الفلسطيني، الجبل الصخري الأجرد، إلى منطقة خضراء، بعدما نقلت النسوة الماء من نهر قويق المجاور إلى المخيم، على أكتافهنّ.
حندرات أقيم ضمن المرحلة الثانية من فترة النشاط السياسي للاجئين، أي بعدما ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية، ما جعل الكيانات السياسية الفلسطينية فيه أكثر تمايزاً عن نظيراتها السورية، وأكثر تعلقاً بقضيتها الفلسطينية. كما أن قرب حندرات النسبي من مناطق التوسع السكاني في حلب الشرقية، خفف عزلته، وساهم في رفع المستوى المعيشي لسكانه، بالإضافة إلى وجود نسبة كبيرة من المغتربين منه، ممن ساهمت تحويلاتهم المالية في تحسين وضع أهل المخيم. قبيل الثورة كان يقطن مخيم حندرات 7000 شخص يعملون في وظائف حكومية والقطاع الخاص.

أكراد حلب

يقطن الأكراد حي الشيخ مقصود شمال شرقي مدينة حلب، وهو حيٌ مُحدث كتوسع وعشوائية في الستينيات، وفي الأصل كان منطقة مسيحية اسمها "جبل السيدة" وفيه "كنيسة السيدة". الحي أخذ اسم "الشيخ مقصود" في السبعينيات، مع تركز الهجرات الكردية إلى مدينة حلب، من عفرين وكوباني، فيه. والحي يقع على مدخل حلب الشمالي الشرقي على طريق حلب-عفرين، ويتصل بمدينة حلب عبر الأشرفية ومحطة بغداد، وتفصله عن المدينة مقبرتان مسيحيتان قديمتان.
الهجرة في البداية إلى الشيخ مقصود كانت من الطلاب وموظفي الدولة، في الستينيات، بالتزامن مع تضخم بيروقراطية الدولة السورية. وكما معظم أحياء الأطراف والأحزمة حول المدن الكبرى، يمثل الشيخ مقصود، حالة تمركز لجماعة بشرية ذات جذر مناطقي أو إثني واحد. ولا ينفي ذلك أن أغنياء و"آغوات" الأكراد كانوا قد استقروا في أحياء حلب الغربية الغنية كالسبيل والسريان، في حين بقي الفقراء في الشيخ مقصود الذي تمدد باتجاه الكاستيللو ووصل عدد سكانه، مطلع الألفية الثانية، إلى 150 ألف شخص معظمهم من الأكراد، وذلك بحسب ما قاله مسؤول المركز الإعلامي في حزب "الاتحاد الديموقراطي" في الخارج إبراهيم إبراهيم.
كما يمكن ملاحظة تمايز اجتماعي آخر في الأجزاء الغربية من "الشيخ مقصود" الأقرب إلى بني زيد، حيث تسود حالة من الفقر الأشد بين السكان ومنهم أكراد وعشائر عربية من الأرناؤوط والبقارة، ولا يوجد مخطط تنظيمي للمنطقة. وتسود في هذا الجزء العمالة الرخيصة، ويعمل جزءٌ مهم من السكان في مهن تغلب عليها الموسمية، كالعمل في المطاعم والفنادق في حلب الغربية. ولشعبيته وفقره، انجذب له طلاب الجامعات والثانوية القادمون من عفرين وكوباني.
في حين تحظى الأجزاء الشرقية من الحي، باهتمامٍ أكبر، نتيجة سكنه من قبل موظفي الدولة والطبقات الوسطى الكردية. والحي الشرقى كان يقطنه قبل الأكراد، ومنذ الخمسينيات، "المارديل" المهاجرون من الحسكة.
كما أن تجمعات كردية أصغر وتعود إلى أكراد كوباني، ظهرت في الحيدرية ومساكن هنانو المحاذية لطريق حلب-كوباني.

هوياتٌ معقدة

ورغم أن الجماعات البشرية السابقة، تشاركت ظروف التهميش والإفقار، طيلة عهد "البعث"، إلا أن مواقفها كانت مختلفة تجاه الثورة. فالنظام من جهته، تمكّن من استغلال الهويات المختلفة، لإثارة صراعات بين أصحابها، كما أن عوامل داخلية ضمن هذه الجماعات ساهمت بدورها في تظهير ما يشبه موقف عمومي لكل جماعةٍ منها؛ مع النظام أو ضده، أو حافظت على مسافة من الالتباس كانت كافية لتطوير مطالب خاصة بها.
الصراعات بدورها، وكعادتها، أضافت عوامل تمايز جديدة إلى الهويات الأصلية القائمة على الانتماءات الثقافية والإثنية. وصارت عملية تخليق سمات جديدة للمجموعات البشرية المتصارعة، منوطة بأحزاب أو قوى عسكرية. فهل بات ممكناً الحديث عن "كتل تاريخية" تصوغ الخطاب المهيمن لجماعاتها، وتضيف عوامل افتراق لها عن بقية المكونات؟

فلسطينيو "لواء القدس"

انشدّ انتباه النظام إلى فلسطينيي حلب، بعد رصد اتجاهٍ مساند للثورة في مخيم النيرب، الأمر الذي اعتُبر شديد الخطورة أمنياً. المحامي أيمن أبو هاشم، قال إن الأجهزة الأمنية بالتعاون مع المخبرين والمرتبطين بها مثل محمد السعيد، سعوا بعد ذلك إلى تأليب الرأي العام الفلسطيني في المخيمات، فكانت عملية "مجندي جيش التحرير" في منتصف العام 2012.
وخُطِفت حافلة مبيت تُقلّ 17 مجنداً من "جيش التحرير الفلسطيني" كانت تُقلهم من مركز تدريبهم في مصياف إلى حلب، في 28 حزيران/يونيو 2012. عملية الخطف التي اتُّهمَ بها مباشرة "الجيش الحر" تمت في سهل الغاب بالقرب من كفريا والفوعة، واستمرت أسبوعين، قبل أن تظهر جثث 14 شاباً منهم في مشفى إدلب العسكري، وآثار التعذيب والقتل بالبلطات والسكاكين بادية عليها.
اتهام "الجيش الحر" بالعملية من قبل فلسطينيي النظام في مخيمي النيرب وحندرات، لاقى آذاناً صاغية لدى الأوساط الشعبية الفلسطينية، وبدت العملية لحظةً تأسيسية في اصطفاف فلسطينيي حندرات والنيرب مع النظام ضد الثورة. ورغم عثور المعارضة على صورتين للمجندين محمد أبو الليل وأنس كريم، المخطوفين والمقتولين، وعليهما أرقام خاصة بالقتلى تحت التعذيب، في مبنى الأمن الجنائي في إدلب، في آذار/مارس 2015، أثناء "تحرير" المدينة، إلا أن أثر العملية كان قد أُنجز نهائياً، ولم يعد في الإمكان عكسُهُ.
رعى النظام تشكيل "لجان شعبية" فلسطينية للدفاع عن المخيمات، واستخدمها لقمع مظاهرات مدينة حلب وجامعتها، والعمل على ضبط الأمن في مخيمي حندرات والنيرب، وملاحقة واعتقال الفلسطينيين المتعاطفين مع الثورة.
المعارضة المسلحة كانت قد سيطرت مطلع العام 2013 على مخيم حندرات شمال شرقي حلب، بعد سلسة مضايقات نفذها 50 مقاتلاً من "اللجان الشعبية" ضد مواقع المعارضة المجاورة للمخيم، وضد سكان المخيم. عناصر "اللجان" سلموا أسلحتهم للمعارضة، وبقي سكان المخيم فيه. وسرعان ما نكثت "اللجان" بالاتفاق مع المعارضة، وساعدت قوات النظام في استرداد المخيم، ما تسبب في قتل عددٍ كبير من مقاتلي المعارضة السورية.
"اللجان الشعبية" الفلسطينية كانت قد بدأت عملية تحوّلٍ بنيوي ووظيفي، خلال هذه الفترة، وتطورت إلى ما سيُعرف منذ تشرين الأول/أكتوبر 2013 بـ"لواء القدس الفلسطيني".
في نيسان/إبريل 2014 عادت المعارضة وسيطرت على المخيم الذي نزح سكانه عنه هذه المرة؛ الموالون للنظام انتقلوا إلى مخيم النيرب والسكن الجامعي ومساكن الصناعة في مدينة حلب، في حين فضّل المعارضون النزوح إلى ريف حلب الشمالي.
النظام بدأ بدعم "لواء القدس" بالسلاح، ليتحول تدريجياً إلى أبرز مليشيا رديفة لقوات النظام في حلب، بقوام 2000 مقاتل، رُبعهم من فلسطينيي مخيمي النيرب وحندرات، والبقية من السوريين. ويقاتل نصف فلسطينيي "لواء القدس" في المخيمات، في حين أن نصفهم الآخر شارك في العمليات القتالية خارجها في جبهات حلب الساخنة؛ في الزهراء وصلاح الدين والحمدانية وحلب الجديدة والمنطقة الصناعية. وتوكّل اللواء بالمرابطة على جبهة الراشدين في مدينة حلب.

مخيم باب النيرب، حلب
مخيم باب النيرب، حلب
 
وينتشر اللواء في مخيم النيرب وجنوبي مطار النيرب حيث "كتيبة أسود القدس"، وفي مخيم حندرات، وفي قرى عزيزة والشيخ لطفي وحيلان، وحول مبنى "المخابرات الجوية" وجامع "الرسول الأعظم" في مدينة حلب حيث "كتيبة أسود الشهباء"، وغربي السجن المركزي، وفي "جمعية الود" جنوبي نبل والزهراء حيث "كتيبة الردع".
ويُشكّلُ "لواء القدس" الفلسطيني خليطاً من بعثيين وفتحاويين وقيادة عامة، ولأعضائه سمعةٌ سيئة كأصحاب سوابق وشبيحة ومتعاونين مع المخابرات. ويطلق مقاتلو "القدس" على أنفسهم لقب: "فدائيو الجيش العربي السوري".
محمد السعيد، زعيم "لواء القدس"، كان قد فتح خطاً أمنياً مبكراً مع النظام قبل الثورة، من خلال الجمعية الإنسانية الفلسطينية "بيت الذاكرة" التي ساهمت في تأمين مِنح للحجاج، وحل مشاكل الفلسطينيين في المخيمات مع النظام. وعمل محمد السعيد مع "المخابرات الجوية" في حلب لاحتواء الحراك الثوري في ريف حلب، وتأمين لقاءات بين الأهالي والوجهاء مع القيادات السورية، وحل مشاكل الموقوفين لدى النظام مقابل تعهدات خطية. مهمة السعيد للتهدئة بين الناس والنظام، تُمثّلُ دوراً أُوكِل للأعيان الجدد، القادمين من مهن مرتبطة بالدولة كالتعهدات والمقاولات. والسعيد مهندس ميكانيك من سكان مدينة حلب، لديه أقارب في مخيم النيرب، وأصله من ترشيحا في قضاء عكا. كما يحمل السعيد دبلوماً في الدراسات التراثية العربية والإسلامية، وكان عضواً في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة"، القوية تاريخياً في النيرب.
عاش "لواء القدس" تحولاً إضافياً، منذ بدأ القتال خارج المخيمات، بالتزامن مع اتخاذ "الحرس الثوري" و"حزب الله" من مطار النيرب منطلقاً لعملياتهم في حلب. ومنذ مطلع العام 2015، بدأ الدعم الإيراني للواء، عبر فتح قناة اتصال مباشرة معه. ومع ذلك ظلت بندقية "القدس" متأرجحة بين كتفي "الحرس الثوري" و"المخابرات الجوية". ورغم ما يقال عن إن جزءاً كبيراً من أعمال اللواء استعراضية، إلا أن انخراط اللواء في عمليات "الحرس الثوري" زودت قيادته بفرصة الانتماء إلى شبكة مليشيات "الحرس الثوري" الإقليمية.

أكراد "وحدات الحماية"

وعلى غرار مجتمعات الأكراد السوريين، كان "الشيخ مقصود" مركزاً سياسياً ناشطاً، خصوصاً من "يكيتي" و"الحزب الشيوعي" و"القومي السوري" و"اتحاد الشعب الكردي". إلا أن "العمال الكردستاني" وجناحه السوري "الاتحاد الديموقراطي" كانا قد هيمنا على الساحة السياسية في الحي، وجميع مناطق الأكراد في سوريا، منذ بداية الثورة السورية.
الحي الذي سيطرت عليه "وحدات الحماية" رغم وجود قوات النظام فيه، كان قد شهد تنسيقاً نادراً بين "الوحدات" والمعارضة في آذار/مارس 2013، تُوّج بخروج قوات النظام منه. إلا أن إشراف "الشيخ مقصود" على طريق الكاستيللو ودوار الجندول، كان مصدر الأزمة المتجددة بين "وحدات الحماية"-الذراع العسكري لـ"الاتحاد الديموقراطي"، والمعارضة السورية. فالكاستيللو ظلّ شريان إمداد الحياة إلى حلب الشرقية، قبل أن تقوم قوات النظام، بدعمٍ روسي إيراني، بإغلاقه، منتصف العام 2016.
العلاقة بين المعارضة التي دخلت حلب منتصف العام 2012، وبين "وحدات الحماية"، بدأت بالتأزم منذ أيلول/سبتمبر 2015، إلى درجة الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، وذلك بعد فتح معبر بين حي "الشيخ مقصود" ومناطق سيطرة النظام في حلب الغربية. أنهت الأزمة علاقة "اللاحرب-اللاسلم" بين المعارضة والوحدات، خصوصاً بعدما بدأت الأخيرة قصفاً على طريق الكاستيللو، ردت عليه الفصائل بقصف الحي. الأمر الذي ظل يتكرر عندما نفّذت "وحدات الحماية" هجمات متزامنة مع قوات النظام والمليشيات الشيعية، تسببت في إغلاق الكاستيللو نهائياً. إبراهيم إبراهيم نفى أن تكون عمليات "الوحدات" بالتنسيق مع قوات النظام، وإن لم ينفِ تزامنهما. فالغرض بالنسبة لـ"الاتحاد الديموقراطي" هو إبعاد خطر قصف "الشيخ مقصود" بسكانه المتبقين (حوالى 40 ألفاً)، من منطقة دوار الجندول.

مقاتلات من حزب العمال الكردستاني / حي الشيخ مقصود
مقاتلات من حزب العمال الكردستاني / حي الشيخ مقصود
 
الفصائل بدورها ترفض ادعاء "الوحدات" عدم تنسيقها مع النظام، خصوصاً مع ظهور قادة المليشيات الشيعية في الشيخ مقصود بعد إحكام حصار حلب مؤخراً. وإن يكن، فالواضح أن أجندة "الوحدات" ليست متطابقة تماماً مع تلك الخاصة بالنظام، وإن كان تحالف مؤقت يجمعهم ضد المعارضة.

حلب الماردلية والعشائرية

الماردلية، وصف يطلق على من يعود أصلهم إلى ماردين التركية، ممن نزحوا بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك السلطنة العثمانية، إلى الحسكة في سوريا، ومنها وجدوا طريقهم إلى حلب.
ورغم أن هناك خلطاً بين "المحليمية" و"المارديلية"، نتيجة وجود أكراد ومسيحيين وأرمن وعرب بين نازحي ماردين، إلا أن كثيراً من مارديلية حلب هم في الأساس من "المحيلمية". وسكن الماردلية الجابرية والسيد علي والنيال، وهي مناطق حديثة نسبياً، أنشئت في أواخر أربعينيات القرن الماضي. ويقال إنهم سيطروا على الجابرية بعدما زاحموا سكانها المسيحيين الذين فضلوا الانتقال والسكن في العزيزية والسريان.
تقاسم زعماء "الماردلية" تجارة الممنوعات في حلب، مع زعماء العشائر، بالتعاون مع النظام. وبلغوا من القوة أن نشروا بسطاتهم وأكشاكهم في باب الفرج، وفَرضوا أتاوات على التجار.
لم يشكل الماردلية فصائل خاصة بهم، بل قاتلوا في مناطقهم، وتوزعوا في مليشيات النظام التي تقاتل في السليمانية والتلفون الهوائي والأشرفية والشيخ مقصود. وكانت "كتائب أبو عمارة" قد أعلنت في كانون أول/ديسمبر 2014، اغتيالها "زعيم شبيحة الماردل" حبيب مردلي، في الحمدانية في حلب الغربية.
وعشيرة بري المشهورة، هي في الأصل عربية سنّية من ريف حلب الجنوبي، ويردوّن انتماءهم إلى قبيلة "قيس" في الرقة ودير الزور. عشيرة بري انتشرت في باب النيرب، وشكّلت عصابات تشبيح تاريخية، وعملت في تجارة الممنوعات، وكانت مشهورة بعلاقاتها الأمنية. منذ منتصف السبعينيات، أصبح آل بري بمثابة وكلاء للنظام، وحازوا حصة الأسد من اهتمامه ورعايته، حتى أصبح بعضهم من أغنياء حلب، وشكلوا عصابات فرضت نفسها بالقوة على بقية العشائر في مدينة حلب، وأرهبتهم.
كبار عشيرة بري، كانوا قد تشيّعوا قبل الثورة، وافتتحوا حسينيات في باب النيرب. مع الثورة، انخرط آل بري في أعمال التشبيح ضد مظاهرات حلب السلمية. وحين دخلت المعارضة حلب في آب/أغسطس 2012، كانت أول مواجهة لها مع آل بري، الذين انهزموا ونزحوا من باب النيرب إلى مناطق النظام في الحمدانية.
شكلت عشيرة بري مع مجموعات عشائرية وقبلية من العساسنة والبقارة، ما يُعرف باسم "لواء محمد الباقر". ومجموعة البقارة المشاركة في "لواء الباقر" هي بزعامة أحد شيوخ آل مرعي.
كما أن قسماً من العشائر السابقة، كان قد انضم للمعارضة، وكما يقول خالد الخطيب، الفئة المستفيدة من تجار الأغنام والمخدرات تحالفت مع النظام، في حين أن الفئات الفقيرة و"العتالة" انضمت إلى صفوف الثورة، وشكّلت فوجاً في "لواء التوحيد" السابق بقيادة حسن مخيبر.

صراعات على خطوط الهوية

من أصل 35 فصيلاً معارضاً مسلحاً في حلب الشرقية، ينشط 11 منهم في صد هجمات المليشيات الشيعية عن الأحياء المحاصرة. وبقية الفصائل كانت قد نقلت معظم قواتها للمشاركة في عمليات "درع الفرات" المدعومة تركياً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" شمال شرقي حلب. فصائل المعارضة الحلبية، يمكن ردّ معظمها إلى "لواء التوحيد" الذي كان سباقاً في دخول الشرقية في العام 2012. مقتل قائد "لواء التوحيد" ومؤسسه، عبدالقادر صالح "حجي مارع"، في غارةٍ جوية، تسبب في تفكك التحالف الذي مثّله اللواء، إلى مكونات مسلحة أكثر تنوعاً تتبع روابط مناطقية أو عقائدية. وجميع فصائل المعارضة المسلحة في حلب، تنهل عقائدياً من مدراس "الإسلام الشامي"، وإن استجد على قلةٍ قليلة منها مزيج يجمع "السلفية الجهادية" مع "الإسلام الشامي".
وكانت الصوفية هي الأكثر انتشاراً في أرياف حلب، قبل أن يغلق النظام الزوايا والتكايا، خلال العام 2003، ويبدأ بدعم محموم لـ"السلفية الجهادية" لتأمين المقاتلين في المعركة ضد الأميركيين بعد غزو العراق. العملية لم تلقَ رواجاً شعبياً، وظلت "السلفية الجهادية" محصورةً في أوساط ضيقة، وسط التشكيك الأهلي في رموزها وارتباطاتهم بالنظام. في المحصلة، لم تزدهر "السلفية الجهادية" في حلب، إلا أن الصوفية وطرقها كانت قد تراجعت بشدة، بعد تجاهل النظام لدعمها.
أما فصائل الشرقية المسلحة، على تعددها، فقد بدأت تواجه معضلةً عويصة، في ظل الحصار والقصف الروسي، لتأزيم العلاقة مع حواضنها الشعبية. إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالشرقية التي يقطنها اليوم ما يقارب 250 ألف إنسان، في ظروف لا إنسانية، وسط حصار تفرضه مليشيات شيعية تدور في فلك "الحرس الثوري" الإيراني، تجد نفسها أمام خياراتٍ صعبة للغاية. وقد تكون أولى المؤشرات هي انضمام "حركة نور الدين زنكي" إلى غرفة عمليات "فتح حلب" وسط حديث عن قرب اندماجها و"فيلق الشام" مع "حركة أحرار الشام الإسلامية".
الأعمال العسكرية المحمومة، لعسكر إيران، على أطراف حلب الشرقية، بالتعاون مع قصف جوي روسي، بات عاملاً إضافياً لزيادة التصاق أهل الشرقية بهويتهم العقائدية. الأمر الذي بات يفصلهم، جوهرياً، عن مواطنيهم الذين فضلوا الاصطفاف مع المحور الإيراني-الروسي. فـ"لواء القدس" و"لواء الباقر" وإلى حدّ ما "وحدات الحماية"، بات يُنظر إليها كقوى متحالفة مع "الاحتلال" الإيراني/الروسي.
عملية "الأَجنَبة" لفصائل محلية تُقاتل مع قوى أجنبية غازية، قد تكون فصلاً حاسماً، في تفتيت المكونات المحلية، وأقلمة الصراع. الأمر غير المسبوق، هو انتماء هذه الفصائل "المتأجنبة" إلى المنشأ الطبقي ذاته لمَن يعادونهم اليوم.
وإذا كانت نسبة الفصائل "المتأجنبة" في مجريات حصار الشرقية، بسيطة وغير مؤثرة في الأعمال القتالية، بالمقارنة مع أعداد الفصائل الشيعية الإيرانية والأفغانية واللبنانية والعراقية والباكستانية، إلا أن أثرها المعنوي أقوى.
 فالحرب التي تخوضها فصائل طرفية "متأجنبة" ضد حلب الشرقية وأهلها، ليست حرب المُهمشين ضد طغاتهم، بل حرب هوامش ضد هوامش، حرب أطراف ضد أطراف، يتم خلالها تخليق أسباب مستوردة للعداء، وتحويل جزء من قوى المجتمعات المحلية إلى وكلاء للقوى الغازية. في حروبٍ كهذه، تُفتقد فيها الأسباب الإقتصادية والاجتماعية للنزاع، لمصلحة بُعدٍ "ثقافي" تفرضه القوى الغازية الأجنبية، تكون الإبادة والتهجير، هي الوسيلة الوحيدة لإرضاخ الخصم. فالحرب هنا، لم تعد وسيلة، بل صارت هي الغاية. لذلك، فهي في أحد أخطر وجوهها: حرب إبادة "الحلبيين الأجانب" للحلبيين المحليين.
مازن عزي

كاتب وصحافي سوري

مواد أخرى لـ مازن عزي