استعمار اللغة: في علاقات إنتاج اللغة الوطنيّة

12 تموز/يوليو 2016
 

"تُصِرُ المَجهوليةُ عَلَى القَول: أنتَ لا تَعرِفُني، فَمَا العَمَلُ إذَن ؟" - لي غيلمور

تَعُجُ الدساتير والقوانين العربية منذ كتابتها ومروراً بكافة مراحل تطورها بعبارت من نوعية : "الأمن القومي، المصالح العليا للدولة، الحرّيات العامّة، السلم العام، الهويّة الوطنيّة، الأمن الروحيّ"،

ولا تقوم النقاشات العامة بتأويل تلك العبارات إلّا على أنها تلقى نوعاً من الاجماع الضمني من عموم المواطنين، وأن لها معنىً مقبولاً لدى أغلب الفئات الاجتماعية ضمن حسهم المشترك أو عقلهم الجمعي، بما أن المفترض في الدستور، كما المفترض في "رجل الدولة" أن :" يتكلّم في صالح الجماعة التي يتوجّه إليها بخطابه ونيابة عنها، يتكلّم من أجل الجميع ونيابة عنهم، يتكلّم بصفته ممثّلاً للعموم"[1] .

يُشير النقاد دائماً إلى أن الدول تطبّق هذه المفاهيم إجرائياً في سياساتها السياديّة عبر تحميلها المعاني اللازمة، أي أنها تظل علامات فارغة من الدلالة حتى يتم تعريفها مجدداً من قبل سلطة الدولة. إنَّ هذا وإن كان يشير إلى بعض الحقيقة لكنه يُغفل بُعداً آخر أشد أهمية؛ هو دور اللغة في إخراجنا للوجود، كفاعلين اجتماعيين، لا يمكن أن نخرج إلى الوجود الاجتماعي إلا عن طريق الحصول على أسماء، أو توصيفات قبلية كمواطنين أو أعداء. وهو ما يعني أنه لا سبيل إلى منع إمكانية أن نُستدعى بطرق مؤذية، مقلقة. ولا سبيل إلى تلافي هذا الوهن الأولي الناتج عن لغة لم نشارك أبداً في وضعها، هي التي تمنحنا المكانة الأنطولوجية (المتعلقة بالوجود) المؤقتة اللازمة، الأمر الذي يقوض حدود الفاعلية ويغلق بضربة واحدة إمكان الفاعلية الجذرية، مثل ممارسة الترهيب عبر إطلاق تهمة معاداة السامية على كل منتقد لإسرائيل حتى وإن كان يهودياً ![2] .

هذا التقسيم القبلي للمكانات الأنطولوجية، الذي تحمله اللغة إلينا يومياً عبر كل نشاطات حياتنا، والذي يؤكد ويزيد من مكانة الاستبعادات والانتقاصات الاجتماعية والطبقية والفئوية والثقافية الموجودة في المجتمع، الذي هو بنية أساسية لانتاج اللغة، والذي تحيا طبائعه بداخلها في الوقت نفسه، هذا التقسيم إنما ينتج عن علاقات صراعية بالأساس، لا عن "القوة غير المفروضة بالقوة التي يكتسبها الجدال الأقوى"[3]، وعن هيمنةٍ وسيادة فَرضت فيها قوةٌ اجتماعية وسائلَ إنتاجها للغة والمعنى على بقية فئات المجتمع، لا عن علاقة "تواصلية لغوية" عقلانية يتجادل فيها الفرقاء كأنداد، ويوضع فيها تفريقٌ منطقيٌ حاد بين العام والخاص، ويُثمر نتيجة تُمثّل الخير العام في أبهى صوره[4]، عبر وسيط القانون، وكأن الدلالات اللغوية يتم تحديدها بشكل اتفاقي، أو تواضع على الاقرار بمعانِ محددة لما يُقر عبر النقاش.

لا يُمكن بأي حال إهمال الجانب "الاستعمالي" للغة الذي يؤدي إلى إهمال الشروط الاجتماعية الحاكمة لاستخدام تلك اللغة، لأن ذلك سيؤدي إلى سذاجة تحليلية مغرية عند البعض، فإن سلمنا بأن اللغة يمكن أن تُدرس كموضوع مستقل، كما يَفصلُ دي سوسير فصلاً مطلقاً بين اللسانيات التي تقتصر على بواطن اللغة، وبين العلم الاجتماعي الذي يتولى ماهو خارج عنها، فإننا نحصر أنفسنا في البحث عن قوة الكلمات وسلطتها داخل الكلمات ذاتها. ذلك؛ لأن قدرة الكلمات على توصيل المعاني لا يُمكن أن توجد في الكلمات نفسها، ولكن توجد في السلطة الموكولة لمن فُوِّضَ إليه أمرُ استخدام هذه الكلمات أو النطق بلسان تقليدٍ رمزيٍ معين، وفي حين هذا الوقت تكون كلماته "شهادة من بين شهادات أخرى، موكولة بصحة التفويض الذي منح إليه"[5].

السؤال الهام الذي أحاول أن أجيب عنه هنا، كيف نشأت تلك التقسيمات الأنطولوجية القبلية في عالمنا العربي الذي لم يبرح كونه عالم ما بعد استعماري؟ وما هي القوى الحاكمة التي تمثل علاقات إنتاج وإعادة إنتاج اللغة، التي تُعبّر عن هذه الاستبعادات الانطولوجية، التي تحدد حياتنا بشكل معطى؟

يبدو أنه علينا دائماً كمعاصرين لحالة ما بعد استعمار لم تنتهي، ومن غير المتوقع أن تنتهي في أفقٍ قريب محتمل، أن نعود حتماً إلى دارسة حال بلداننا في ظل الاستعمار، ثم ثانية إلى التوقيت الذي شكًل علامةً أساسية في تاريخ كل البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في العالم العربي، وهو لحظات نشوء القوميات كظواهر اجتماعية وتطورها، حتى لحظات الاستقلال، فقد كانت القومية إعادة تنظيم للاجتماع وللنظام السياسي والثقافي. فهي من جهة أولى لا تسعى بأي طريقة جذرية إلى تحطيم أو تحويل البنى المؤسسية البيروقراطية للسطلة "العقلانية"[6] المكرسة في حقبة الحكم الاستعماري، سواء في مجال الإدارة أو القانون أو الاقتصاد أو في بنية التعليم والتنظيم الثقافي والضبط الديني، ومن جهة أخرى لا تسعى إلى أن تنقضّ بشكل تام على كافة الطبقات المسيطرة ما قبل الرأسمالية، ولا البنى الاجتماعية والثقافية ما قبل الرأسمالية،بل إنها تسعى إلى الحد من سلطتها السابقة، ومهاجتمها انتقائياً فقط، وإعادة اختراعها كمصدرٍ من رأس مال رمزي للنسيج القومي الجديد الذي يحمل في طيّاته أشكالاً متعددة من القديم، لفرض هيمنته على بقية الفئات التابعة، إلى جوار السعي الحثثيث إلى فرض عملية من "النسيان الجمعي"[7] على بقية الأنظمة السابقة عليه والمتناقضة مع أهدافه.

صورة للرئيس السوري أمين الحافظ ( 1964) في ذكرى تولي حزب البعث للسلطة في سوريا
صورة للرئيس السوري أمين الحافظ ( 1964) في ذكرى تولي حزب البعث للسلطة في سوريا

بعد هذه التأسيس الاجتماعي والثقافي والرمزي للنظام السياسي لدول ما بعد الاستعمار، الذي أعقب ترسيم الحدود الجغرافية، وصعود طبقة قومية مهيمنة حلّت محل الطبقات البرجوازية والأرستقراطية، والطبقات الرأسمالية غير الناضجة – أو الطبقات ما قبل الرأسمالية التي لم تتمكن من النضوج مثل طبقات كبار مُلاك الأراضي في مصر والعراق والأردن- وزيادة الترابط بين أجزاء الدولة والمجتمع وزيادة مساهمة "زبائنية" المجتمع بفئاته المختلفة لدى الدولة، وبالتالي الترابط الكبير الذي حدث بين أجزائه عن طريق الاتصال والاعتمادية الاقتصادية على المركز، مما يؤدي إلى هيمنة المركز اقتصادياً وسياسياً وثقافياً على الأطراف واستغلاله.

هذا التحديث غير المتكافيء الذي يجتاح الدولة ينشأ عنه ظهور الفرق بين النسيج المهيمن وخطابه الثقافي المركزي من ناحية، وبين الجماعات التابعة الأخرى وأنساقها الثقافية وخطاباتها من جهة أخرى، ويتجلّى ذلك في مأسسة النظام الطبقي وتقنينه، وتقنين افتراضاته الثقافية وفرضها ونشرها عبر الطباعة الرأسمالية، والصحف اليومية، وتقنين المكاتبات البيروقراطية والديباجات القانونية. تلك الحالة التي يسميها مايكل هيكتر " الاستعمار الداخلي"[8]، ينتج عنها ما يسميه "التقسيم الثقافي للعمل" وفيه تُنظم الجماعة المهيمنة تخصيص الأدوار الاجتماعية وتوزيعها بطريقة تحتفظ بأكثر الأدوار مكانة وهيبة واحتراماً لأعضائها، مثل المناصب العسكرية والبيروقراطية والدينية، وفي المقابل، يُحرم أعضاء الجماعات التابعة من الحصول على هذه الفرص.
ويجب التاكيد على أن هناك جدليتان تعملان بشكل متساوق داخل هذا الاستعمار الداخلي، فأولاً تفرض الدولة عبر القانون والأجهزة البيروقراطية تطبيق هذا النظام الطبقي الجديد، عبر النص في الدساتير والقوانين، خاصة ما بعد الاستعمارية، على شروط الأحقية في المناصب البيروقراطية والعسكرية والدينية. حتى أن الدولة تفرض لغةً مشروعة، للاستعمال و التداول من خلال الطباعة الرأسمالية والصحف اليومية وتعميم بروتوكولات تشكيل المجال العام، وبالتالي بروتوكولات الإقصاء من المجال العام، بالتأكيد على الاستبعادات والفروق الطبقية الأصلية. ثانياً: يشكّل المتخصصون في الانتاج الثقافي المُقنَّن باسم الدولة، مجال إنتاج خاص، ويؤدون دوراً إيجابياً في إنشاء جدليةٍ ثقافية صاعدة من البنية التحتية لطبقاتهم، إلى البنية القانونية الفوقية للدولة، الأمر الذي يؤدي دائماً إلى تطوير الهوية الإثنية الخاصة بالنسيج القومي المهيمن.

فاللغات الوطنية على سبيل المثال، لم تكن لتحصل على مكانتها تلك إلا عن الطريق القضاء على كل تنوعٍ وكل اختلافٍ لغويٍ شائع في جسد المجتمع، وهو ما يُطلق عليه إرنست رينان النسيان الجمعي كما سبق، ثم فرض لغة واحدة في الصحف اليومية وفي وسائل التعليم المدرسية وفي اللغة القانونية، تُمثل أولًا : من حيث الكلمات والدوال والرموز والمصفوفات الثقافية، تأريخاً لصعود طبقةٍ بعينها احتلت العالم الاجتماعي والثقافي والسياسي ثم فرضت كل ذلك عبر القانون، وثانياً: من حيث دلالاتها، ومعانيها ومقاصدها، واستبعاداتها الاصلية، وطريقتها في تحديد المكانات الأنطولوجية لكل "الآخرين" بتقسيمهم ووصفهم واستعدائهم ووصمِهم، بل ومحاباتهم أو معاداتهم. فتصبح فئات واسعة منهم "لاجئين" لدى دولهم، حسب عبارة حنّا أرندت وجورجيو أغامبن، وهو ما تُعبر عنه عبارت قانونية شائعة مثل "تكدير السلم العام، تدمير الهوية الوطنية، ازدراء الرموز الوطنية، السيادة، المواطن ... إلخ". لا تُعبّر هذه الدلالات فيما تُعبر إلا عن المعاني التي أرستها نفس الفئة وفقاً لمصالحها ورهاناتها وتحولاتها، بل وطموحات أفرادها وطريقة حياتهم. ولنفس هذه الأسباب تُمكننا دراسة تاريخ تكون تلك المفاهيم القانونية ودلالاتها، ومركزياتها ومهمشيها، أن نخلص إلى نتائج هامة حول تاريخ الهيمنة والتهميش الاجتماعيين، والسياسيين والثقافيين في المدد الزمنية التي عاصرَتها، بل وتاريخ سيرورة الهويّة الإثنيّة التي أرستها الطبقات القومية الجديدة كحالة استثناء ممتدة، وتطوراتها وانقطاعتاه وقطائعها المعرفية وقفزاتها الاجتماعية والسياسية.

الهوامش:

[1] بيير بورديو، مصنع النقاشات العموميّة، ترجمة د. محمد الحاج سالم، مجلة أكاديميا، جامعة منّوبة تونس، عدد يناير 2012 ، ص48.

[2] كما تشير الفيلسوفة الأمريكية "اليهودية" جوديث باتلر: في قوة الدين في المجال العام، دار التنوير، ترجمة فلاح رحيم.

[3] كما يُعرّف الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس مفهوم "المجال العام". jurgen Habermas, The Theory

Of Communicative Action, vol2,: A Critique of Functionalist Reason ,tr. Thomas McCarthy (Boston:BeaconPress,1987).

[4] هذا ، وحسب هابرماس نفسه، لم تتحقق هذه الصورة اليوتوبية من المجال العام على مر التاريخ. لمناقشة مفصلة حول المفهوم، راجع المحاولة النقدية للفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر بعنوان "إعادة التفكير في المجال العام": Rethinking the Public Sphere: A Contribution to the Critique of Actually Existing Democracy, Nancy Fraser, Social Text, Published by: Duke University Press, No. 25/26 (1990), pp. 56-80.

[5] الرمز والسلطة، بيير بورديو، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال، ص 71.

[6] لمناقشة مفيدة: الحقوق والعقلانية والقومية، جيمس كولمان، في : القومية والعقلانية ، تحرير ألبرت بريتون وآخرين، ترجمة أمنية عامر وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة، ص 27.

[7] كما يقول ارنست رينان في مقال شهير بعنوان"ما الأمة؟" ، في Nation and Narration, edited by Homi K. Bhabha, Routledge, 1990, PP.8.

[8] Internal Colonialism: The Celtic Fringe in Bristish National Development, MICHAEL HECHTER, Transaction Publishers, 1998, pp: xiv-xv.

SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave

مصطفى عبد الظاهر

باحث ومترجم مصري، متخصص بالقانون، وتتوزع اهتماماته بين العلوم الاجتماعية والدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات الشرق الأوسط وتاريخه. نشرت له العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات في مراكز أبحاث عربية منها مركز نماء للدراسات والأبحاث، ومنتدى العلاقات العربية والدولية، وجدلية، ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، وينصب اهتمامه في هذه الفترة، وما يقوم به من بحث وترجمة وتحرير وإشراف، على دراسة ظاهرة "القومية" بأبعادها النظرية والاجتماعية والتاريخية والفلسفية.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.