Print this page

الإسلام الرسمي، الشبكات الإسلامية العابرة للحدود، والسياسات المحلية: سوريا أنموذجاً

18 أيلول/سبتمبر 2016
 
مقدمة

منذ انقلاب الثامن من آذار عام ١٩٦٣، اتسمت السياسة السورية تجاه الإسلام ببحثها الدائم عن مصادر الشرعية الإسلامية. كان المسلمون من الطائفة السنية - والذين يشكلون النسبة الأكبر من السكان- يشعرون بنفورٍ متزايد تجاه أنظمة الأقلية المُتتالية.
كما أدى تدهور العلاقة بين النخب الحاكمة والسنة قبل حكم الأسد - أي بين ١٩٦٣ و ١٩٧٠- إلى تولد استراتيجية قمعية مفرطة بهدف السيطرة على الساحة الإسلامية المحلية. ولكن مع مجيء حافظ الأسد عام ١٩٧٠، أصبح هناك مجالٌ صغير للتغيير. رفضت المؤسسة الإسلامية السنية سعي اﻷسد إلى إعادة صياغة سياسات الدولة المُتعلقة بالإسلام، وأحبطت هذه المقاطعة آمال حافظ الأسد الذي توجه بدوره نحو الإسلام الصوفي والشيعي باحثاً عن أشكال ممكنة من التعاون.

وبينما حافظت معظم الطرق الصوفية على مسافة مع النظام، رحبت الطريقة النقشبندية[1] بهذه الفرصة الفريدة للدخول في المشهد السياسي والديني. فقد كان للتعاون مع الطريقة الكفتارية التابعة لمفتي سوريا العام الشيخ أحمد كفتارو إضافةٌ كبيرة للإسلام الصوفي، وهو ما أعطاه حضوراً كبيراً في السياسات الدينية للدولة. كما وجدت الطريقة الصوفية النقشبندية الثانية التي تزعمها الشيخ محمد الخزنوي في الجزيرة السورية لنفسها مثل هذا الحضور، ولكن بدرجةٍ أقل. كما أصبحت الطائفة الشيعية قوةً دينية أخرى بعد دخول ممثلي الطائفة الشيعية الإثنى عشرية عبر الدول في المشهد المحلي السوري، مثل دولة إيران والأب الروحي لحزب الله، آية الله محمد حسين فضل الله المقيم في بيروت.

يبحث هذا الفصل كيف هيمنت الطرق الصوفية وممثلي الطائفة الإثنى عشرية على الإسلام الرسمي في سوريا. كما يُظهر دور التقاطع الوثيق بين الجماعات الإسلامية الناشطة محلياً وعالمياً في تشكيل السياسة الدينية الرسمية في سوريا.

هكذا، اعتمد الرئيس الراحل حافظ الأسد على الطوائف الدينية التي غلب عليها طابع الأقليات الإثنية، مفضلاً الطرق الصوفية ذات الأصول الكردية. وفي نفس الوقت، قام الشيخ أحمد كفتارو - وهو الذي تم اختياره لتمثيل الإسلام الرسمي في سوريا – بتأسيس شبكةٍ عابرة للحدود تضمنت سوريين علويين وإيرانيين وشيعة لبنانيين، بالإضافة للممثلين السنة. وعلاوةً  على هذا التجمع، تموضع هذا التطور في السياسة الدينية في سوريا داخل مثلث الجيش والاقتصاد والعلاقات الدولية بين سوريا وإيران ولبنان، ما أبرز وجود التفاعل الكبير بين الممثلين العالميين والإقليميين والمحليين، وعلى دورهم في تشكيل الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط.

توطئة تاريخية

بعد الانقلاب العسكري عام ١٩٦٣، حُكمت سوريا لأول مرة في تاريخها الحديث من تحالف بين أقليات إثنية وطائفية ضمن أيديولوجيا اشتراكية علمانية. رفضت المؤسسة السنية، بقيادة العلماء، التعامل مع النظام الحاكم الجديد - ينطبق هذا على الفترة بين ١٩٦٣ و١٩٦٦، بالإضافة إلى فترة البعث الجديد بين ١٩٦٦ و١٩٧٠- وذلك بالرغم من أن هذا النظام تمتع بتمثيلٍ مجتمعي أوسع مما كانت عليه سوريا في أي وقت مضى (Rabinovich, 1971: 167 and 197–98). أسست سياسات الإدماج التي اتبعها النظام البعثي لحالة من العداوة والتنافر بين النخب الاشتراكية العلمانية الحاكمة، والأكثرية السنية المتمسكة بتقاليدها وعقيدتها الإسلامية المتوارثة. وتُعزى حالة عدم التقبل هذه لأسباب عديدة، فهي تكشف عن انزعاج طبقةٍ من النظام القديم الذي يملك تراثاً عريضاً ومتفوقاً على مُختلف الصُعُد السياسية والاقتصادية والثقافية، وذلك بالنسبة لمن يمثلونهم من ذوي الأصول الريفية والطبقات الاجتماعية المتدنية. بالإضافة لذلك، زادت الطبيعة البرجوازية للطبقة الحاكمة الجديدة من حدة المواجهة بين الطبقات الاجتماعية، وهو ما عمَّق الفجوة بين مصالح أهل الحضر وأبناء الريف (Hinnebusch, 1982: 146)، ولذلك فمن غير المفاجئ أن تتلازم هذه المرحلة المبكرة من الحكم البعثي مع عدد من الصراعات والانتفاضات.

وبعد الانقلاب الذي نفذه البعث الجديد عام ١٩٦٦، أضحت التناقضات أكثر وضوحاً، فعملية خصخصة التجارة الأجنبية وأجزاء من قطاع الصناعة، بالإضافة إلى إعادة استصلاح الأراضي، كل ذلك أثر على مصالح حيوية للتجار المحليين وطبقة العلماء. وبالإضافة لما سبق، فقد تفشت الرؤية الاجتماعية التي تُقدمها العلمانية من خلال النخبة الحاكمة الجديدة، وهو ما أثار استياء الطبقات التقليدية من المجتمع. وازدادت حدة التوتر مع استيلاء حافظ الأسد، ذو الأصول العلوية[2] ، على زمام السلطة عام ١٩٧٠، مما شجَّع القوى المعارضة في التركيز على المرجعية الدينية للنظام، وبالتالي على شرعيته السياسية. لقد كان الصراع على الشرعية الإسلامية يُضمر سعياً عنيفاً للحصول على القوة السياسية والاقتصادية، ذلك لأن أغلبية الطائفة العلوية تعود في أصولها إلى المناطق الساحلية من مدينة اللاذقية، حيث عاشوا في ظروف سيئة ضمن الطبقة العاملة القاطنة في الريف حتى أواخر الـ ١٩٥٠ (Batatu, 1981: 333–34).

وقد اعتبر السنة الصعود المتتابع لبعض أبناء الطائفة المحرومة حتى أصبحوا نخب سياسية واقتصادية وثقافية بمثابة تحدٍ واستفزازٍ لهم. ومن حسن حظ الأسد، بدأت المجموعات العشائرية والإقليمية والطائفية بإذعان ولاءها للأسد، والتي سارت جنباً إلى جنب مع سياسة النظام التي ارتكزت على منظومة من المحسوبية والمحاباة (Hinnebusch, 1982: 144; van Dam, 1996)، وهذه الصورة كانت أقل فاعليةً مما لو كانت قائمةً على علاقة ولاءٍ مطلقة ومباشرة، وهو ما كان مهماً جداً للنظام على صعيد توزيع السلطات. ففي الشرق الأوسط، تُعتبر كل من العشيرة والإقليم والطائفة محددات أساسية لصناعة الولاءات، لذا لم يكن مفاجئاً أن يصل العديد من العلويين "ويا للصدفة !" إلى المناصب الرئيسية للسلطة (Batatu, 1981: 331 f.;Abd-Allah, 1983: 34 f.; Sadowski, 1988: 161–84). قد يثبت وجود أقلية سنية في السلطة عكس ذلك، مثل مصطفى طلاس الذي كان وزير الدفاع منذ ١٩٧٢ ولازم الأسد لمدة طويلة، أو عبد الرحمن القاسم الذي تسلَّم منصب رئاسة الوزراء بين عامي ١٩٨٠ و١٩٨٧، أو رئيس هيئة الأركان حِكْمت شهابي (Koszinowski, 1985: 551).

كان حضور السنة داخل السلطة حجةً للنظام لنفي هذه التهمة (Hinnebusch, 1982: 144). فمن منظور طائفي (Seurat, 1989: 19)، كان حزب البعث يمثل انعكاساً للواجهة المدنية الزائفة للنظام (Seurat, 1989: 27, fn. 33)، واستمر هؤلاء السنة بممارسة السياسة الطائفية تحت غطاء البعثيين[3]. تحدّت المؤسسة السنية الشرعية الإسلامية النظام الجديد، وبالتالي تحدّت سلطته الدينية والسياسية[4]، ولا ينبغي أن يُحطَّ من شأن الدور الذي لعبه العلماء السنة من المذهبين الحنفي والشافعي في تصعيد المواجهة مع النظام. نفَّذَ النظام عدة استراتيجيات جريئة وعدوانية بهدف التحكم بالبنية التحتية الواسعة للسنة، وهو ما طغى على ممارسة النظام، وذلك بدلاً من السعي نحو تطوير استراتيجيات للتعاون. وقد ظهر ذلك في التدابير التي اتخذها النظام كالتعذيب والاعتقال، والتي كانت سبباً في إكساب سوريا سمعة الهمجية والبربرية، بالإضافة للدور الذي مارسه الجهاز الأمني – والذي تغلغل في عمق المجال الخاص – في نشر الرعب والخوف في نفوس المواطنين، ولم يَسلَم الخطباء والمصلون في المساجد من الاعتقال والتوقيف عن العمل، وذلك لعدم خضوعهم لأوامر جهاز المخابرات المتيقظ دائماً. وقد تعزز كل ذلك عن طريق وسائل التحكم والهيمنة لمختلف أشكال مؤسسات الإسلام السني، كالأوقاف والمساجد والمعاهد الدينية. (Böttcher, 1998a: 17–146).

يدلل ما حدث عام 1982 في مدينة حماة - التي تقع في وسط سورية - من تمرد أهلها وردّ النظام الذي تمثل في الحصار والتدمير، إلى أي مدىً كان يمكن لنظام حافظ الأسد أن يستعمل الوسائل القمعية في سبيل الحفاظ على السلطة. وبالرغم من أن من قام بالتمرد كانوا عُصبةً قليلة من الطليعة المقاتلة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أنها خلفَّت جرحاً عميقاً في الذاكرة الجمعية السورية (Reissner, 1980; Abd-Allah, 1983: 191-96; Lobmeyer, 1995)، وكانت إعلان نهاية التحدي المفتوح للشرعية الدينية والسياسية للنظام، واستمر الصراع على الشرعية بعد ذلك، ولكن ضمن أفقٍ أقلَّ انفتاحاً، بالرغم من حرص كلا الطرفين على تجنب مواجهةٍ مفتوحة أخرى بعد أحداث حماة.


استعاد النظام السوري سيطرته الكاملة على الساحة السنية بعد أحداث حماة، ولكن الضغط حينها بدأ يتشكل من الخارج، خاصة مع رواج التوجه الذي برز في العالم الإسلامي نحو إصلاح الممارسات الدينية، وهو ما كان له تأثيره القوي على الشريحة السنية في سوريا. وكما كان الحال في العالم الإسلامي، كانت هناك نداءات متزايدة عند السنة في سوريا لتفعيل القيم الإسلامية في جوانب حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبغرض عدم بروز توجهٍ سني راديكالي للتعبير عن هذه المطالب، عمِلَت السلطات السورية على الاستجابة لذلك عن طريق تطوير رؤيتهم الخاصة للإسلام، وهو ما ظهر في صيغة "الإسلام الرسمي". ففي حين تم تحريم ومنع أي تأويل للإسلام قد يُشكل تهديداً للسلطة؛ كانت أنماط الإسلام الرسمي باباً لمساحةٍ جديدة أتاحت للنظام  تدعيم مصادر شرعيته. وقُيِّدَ المشهد الديني بقواعد فاقت في صرامتها القواعد المُطبقة في المجال الاقتصادي. وكما في مجال التبادل التجاري، فالأقلية المُتَمتِّعة بالشرعية الرسمية من مشايخ حزب البعث أصبحوا هم المستغلين والمحتكرين للمجال الديني ضمن الأوضاع الجديدة.
 
تأسيس الإسلام السني الرسمي

اتَّسم الإسلام السني الرسمي السوري بتكوينه الصوفي، وكان الشريك والمعاون الأبرز للنظام هم الطرق الصوفية الكردية: الطريقة الكفتارية للشيخ أحمد كفتارو، والطريقة الخزنوية للشيخ محمد الخزنوي. وفي حين تتركز شبكة علاقات طريقة الشيخ كفتارو في المناطق الحضرية في دمشق بشكلٍ أساسي، مع بعض الأفرع في لبنان؛ فإن شبكة الشيخ الخزنوي تتركز في المناطق الريفية للجزيرة السورية، مع وجود أفرع لها في المجتمعات الكردية عبر العالم.

كان نشاط هذه الطرق الصوفية مفاجئاً، وذلك في ظل الرقابة الصارمة التي رزحت تحتها القواعد السنية، فقد كان واضحاً أن نجاحهم لم يكن ممكناً لولا رضا النظام السوري بذلك.

تطور التصوف عبر القرون إلى بنيةٍ منظمة هي الطرق الصوفية التي تتمحور حول الشيخ أو المرشد، وتحظى بعض الطرق كالقادرية والمولوية والنقشبندية بنشاطٍ ونجاح كبيرين بين الجماعات الإسلامية عبر الشرق الأوسط ووسط آسيا والصين والولايات المتحدة وأوروبا.
 
دراويش دمشقيون في القرن التاسع عشر
دراويش دمشقيون في القرن التاسع عشر
يتراوح حجم المنتمين للطرق الصوفية بين العشرات وحتى مئات وآلاف، ولا ينحصر نشاطهم في الممارسات الروحانية، بل يتجاوز ذلك إلى تأسيس كتل اقتصادية وسياسية واجتماعية عابرة للحدود، ويعود سرُّ نجاحهم إلى مرونتهم في استيعاب المحددات السياسية والاقتصادية والتشريعية للدول المستضيفة لهم.

 أدرك النظام السوري أن لدى هذه الطرق الصوفية بُنيةً هرميةً فريدة تجعلهم موضع ثقة كشُرَكاء متى ما قَبِلَ شيخ الطريقة بوجود نوعٍ من التنسيق والاتفاق مع النظام. بغض النظر أكانت الجماعة الإسلامية صوفية أم سلفية[5]، فإن موقفها من النظام أو الدولة يتحدد بناء على موقف شيخها، سواء كان هذا الموقف معارضاً أو موالياً للنظام، أو حتى ولو كان مجرد نوع من التعايش معه. فالشيخ (أو بصورة أقل الشيخة) هو المسؤول عن اتخاذ القرار فيما إذا كانت جماعته ستقبل بالعلاقات السلطوية ومبادئ الشرعية التي أسس لها النظام، وتكون كاريزما الشيخ عاملاً حاسماً في قبول معظم أتباعه بقرار التحالف مع القيادة السياسية للدولة، وقد يتعرض الشيخ وجماعته إلى الضغط من الكتل المعارضة داخل الجماعة وخارجها في حال قبوله بالتحالف، ولكن في حال رفضه للتحالف فقد يؤدي ذلك إلى ضغوطات من السلطة السياسية. فعلى تصورات الجماعة تجاه التنظيم الاجتماعي والسياسي أن تتكيف مع الإطار المنظم من قِبَل إسلام الدولة.

تُجيد الطرق الصوفية – خاصة الطريقة النقشبندية – عملية التكيف هذا بحكم تكوينها الداخلي القائم على علاقات الولاء، فبالمقارنة مع التنظيمات الدينية الأخرى، تتميز الطرق الصوفية بكونها مترابطةً بإحكام بسبب تركيبها الهرمي المتسلسل على نحوٍ صارم لمريديها الذكور والإناث، فكل مريد يرتبط بعلاقةٍ ما مع الشيخ الذي يقع في أعلى هرم الطريقة الصوفية، وهذا يمثل شكلاً من العلاقة والتواصل التي تتسم بالديمومة والتكرار والكثافة، ويطلق الصوفية على هذه العلاقة اسم "الرابطة"، وهو تعبيرٌ يدل على أقصى درجات الإخلاص والثقة. تتأسس الرابطة رسمياً من خلال مراسم (أو طقوس عبور) تشتمل على أخذ القَسَم من المريد. وتتجدد الرابطة كلما حافظ المريد على الصلاة والتأمل مع الشيخ، والتحدث معه والاستماع لتعاليمه. يتركز اهتمام أغلبية مريدي الشيخ على الجانب الروحي، فيمثل التصوف بالنسبة لهم مسلكاً روحياً يُركز على علاقة المسلم بربه بناءً على مجموعةٍ من قواعد الأدب والسلوك، وأنماط من التأمل والابتهال. (Nasr, 1991: 3). يلتقي المريدون المنتمون للطرق الصوفية الكبيرة بالشيخ ضمن الصلوات الجماعية ومجالس الذكر أو حلقات التدريس، ويمكن أن يحظوا بلقاء شخصي معه بمساعدة وسطاء، حيث يعتبر الحصول على وقتٍ معه أو مع عائلته بمثابة امتياز، بينما لا يحتاج المقربون إلى وسطاء لمقابلة الشيخ (Schenk, 1984: 47–51). يمتاز الأعضاء الصفوة من الطريقة الصوفية، مثل أفراد العائلة، بصفة الأقدمية في "الرابطة" التي تستغرق عقوداً حتى تتجذر، وعادةً ما يكونون من الأقارب ويعودون إلى ذات العرق والطائفة، وهم مسؤولون عن توطيد المريدين الجدد عن طريق زيجات تتم من داخل الرابطة، تتعزز "الرابطة" من خلال الروابط الأسرية والطائفية والعرقية، وهو ما يزيد استقرار الجماعة إلى أقصى درجاته.

يجعل غياب المشاركة الفردية للمريدين في عملية صنع القرار الطرق الصوفية شريكاً محبباً للأنظمة السلطوية كالنظام السوري،  وتتكيف الطرق الصوفية مع عملية التوسع، كما تستوعب بسهولة اتساع رقعة محيط المتعاطفين والمتبرعين، أولئك الذي ينضمون لأغراض انتهازية اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، ولكن لسببٍ أو لآخر، ليس لديهم الاهتمام أو الوقت كي ينخرطوا أكثر في الطريقة، أي أنهم جزء من الشبكة ولكنهم قد لا يُضمَّون للداخل إلا في مرحلةٍ معينة من تطورهم الديني والروحي. وطالما انخرط المسلم العادي بشكلٍ أو بآخر في إحدى هذه الطرق الصوفية؛ فإنه لن ينجذب إلى تلك التيارات الإسلامية المعارضة للنظام.

عن طريق لعب ورقة التصوف، قام النظام السوري بتنشيط الإسلام الصوفي ذو التقاليد العتيقة والذي كان يلعب دائماً دوراً مهماً في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية السورية، فقد عاش أعلام مشايخ الصوفية - كالشيخ خالد النقشبندي أو الشيخ أمين الكردي - في دمشق، ونشروا تعاليمهم الصوفية في مختلف أرجاء سوريا (Geoffroy, 1995)، كما تعايش التصوف الاسلامي بسلامٍ مع التيارات الإسلامية ذات التوجه السلفي في سوريا، وقد تمتَّع المشايخ الصوفية بمكانةٍ عالية ومقدَّرة من قبل المؤسسة الإسلامية السنية. وفي سوريا الحديثة، تزدهر الجماعات الصوفية في مختلف أرجاء البلاد، خاصةً في دمشق وحلب وشمال شرقي سوريا (de Jong, 1986: 205 – 43; Batatu, 1999: 103-05; Pino, 2001 ).  ولم يكن ظاهرة كون الطرق الصوفية أداةً سياسية بارزة مجرد ظاهرة سورية مستحدثة، فلطالما كان المشايخ الصوفية وأتباعهم فاعلين مؤثرين في مساندة أو معارضة السلطة السياسية[6].

الطريقة الصوفية الكفتارية في دمشق

تُعد الطريقة الصوفية النقشبندية التابعة للشيخ كفتارو مثالاً كلاسيكياً للجماعة الصوفية التي اتخذ فيها زعيمها قرار التحالف مع السلطة السياسية[7] ، لقد تطور هذا التحالف ببطء، وحظي بقبول من عموم الأعضاء الصفوة داخل الجماعة، حيث تتألف هذه الصفوة في الطريقة الكفتارية من أكراد يتَّبِعون المذهب الفقهي الشافعي[8]، وتجمعهم جميعاً صلة القرابة والمصاهرة مع شيخ الطريقة. بعض أجدادهم كانوا من الهاربين من كردستان مع الشيخ أمين والد الشيخ كفتارو، واستقروا في حي الأكرد في دمشق.

الشيخ محمد أمين كفتارو
  الشيخ محمد أمين كفتارو
 ثم التف هؤلاء حول حلقات العلم التي كان يلقي فيها الشيخ أمين دروسه، وأصبحوا مريدين عنده بعد أن وصل إلى موقع المشيخة للطريقة الصوفية لاحقاً. وتتلمذ أولادهم مع ابنه الشيخ أحمد (مواليد ١٩١٢) الذي خلفَ والده في مشيخة الطريقة عام ١٩٣٨، وطورها إلى ما باتت تُعرف به اليوم بالطريقة الكفتارية. يمثل هؤلاء المريدين نواة الجماعة، فهم يحتلون المواقع الرئيسية فيها، ويضمنون تنفيذ السياسات التي ينصَّ عليها الشيخ. تُعقد اجتماعات الرجال والنساء "الإدارة الصوفية العليا" بشكلٍ منتظم في المنزل الخاص بالشيخ الكائن على أطراف مدينة دمشق. وبالنسبة لهم فإن النجاح المادي  للطريقة الصوفية على الأرض له ذات الأهمية لتقدمهم الروحي في طريقهم إلى الله، هذا التوجه يسهل عملية تنفيذ القرارات المحددة والحاسمة التي تُفضي إلى قرار التحالف مع النظام السلطوي.

يعود تاريخ التحالف بين الشيخ أحمد كفتارو وحزب البعث إلى فترة الخمسينات من القرن العشرين، واستلزمت سنوات طويلة إلى أن تطورت، وقد تيسر ذلك بفضل الامكانيات التي اكتسبها داخل جهاز الدولة. حيث كانت البداية عام ١٩٤٨، عندما انضم إلى دائرة الإفتاء كمُدرِّس لمادة الإسلام في القنطارية في الجولان وفي دمشق، وعُيِّن عام ١٩٥٨ كمفتي عن المذهب الشافعي في دمشق، كما كان له برنامجه الإذاعي الخاص في الفترة بين ١٩٥٩ وحتى ١٩٦٤، حيث كان يقدم دروساً عن الدين الإسلامي لجمهورٍ واسعٍ من الناس (Kaftaru, 1990). وتبعاً لمنهجه: "التعاون مع أي حكومة وطنية" (al-Habash, 1996: 78)، أظهر الشيخ كفتارو مرونةً كبيرة في تكيفه مع أحكام الأنظمة البعثية المتقبلة. وبعد عام من انقلاب الثامن من آذار عام ١٩٦٣، تم تعيينه في منصب المفتي العام لسوريا، ولا يزال موضوع تعيينه أمراً مثيراً للجدل حتى اليوم في سوريا، بالرغم من عدم طرح الموضوع للنقاش الرسمي، فبعد ثلاثة أشهر من استيلاء حزب البعث على السلطة عام ١٩٦٣، تمت إقالة المفتي العام الشيخ أبو اليسر عابدين من منصبه، وقد كان شيخاً ذائع الصيت في سوريا، وكانت إقالته ذات دلالة واضحة على توجه النظام الجديد نحو تقليل تأثير المشايخ السنة. وُضع مفتٍ مؤقت لشغر المنصب لمدة عام تقريباً، بينما كان النظام الجديد يبحث بصورةٍ مضنية عن خَلَفٍ قابل للتعاون،وأخيراً عُقدت في ١٩٦٤ انتخابات خسر فيها الشيخ ذائع الصيت حسن حبنكة أمام الشيخ كفتارو بفارق صوتٍ واحد (Böttcher, 1998a: 54-59)، ولم تغفر مؤسسة العلماء السنية قرار الشيخ كفتارو بالوقوف في وجه الشيخ حسن حبنكة، مما أدى إلى حالة من الجفاء أفقدت الشيخ كفتارو قاعدةً سنية كبيرة، ولكن أدرك النظام البعثي أن الشيخ كفتارو لم يكن يمانع تقليل سلطته الفقهية داخل وزارة الأوقاف مقابل التعاون مع النظام.

بينما كان دوره يتقلص كمفتٍ عام، فإن مكانه كزعيم لجماعةٍ صوفية نامية أخذ بالتسارع مع بداية السبعينات عندما أمسك حافظ الأسد زمام السلطة، عندما تولى حافظ الأسد زمام السلطة.فالعلاقات الممتازة مع الرئيس حافظ الاسد زودت الشيخ كفتارو بالدعم اللازم لتوسيع رقعة جماعته الصوفية.
 
أحمد كفتارو برفقة حافظ الأسد أمام بوابة الجامع الأموي
أحمد كفتارو برفقة حافظ الأسد أمام بوابة الجامع الأموي
 
هناك عدة جوانب مشتركة بين الرجلين: الانتماء العرقي للشيخ الكفتارو وطموحاته، وواقع كونه وافداً ضمن النسيج الاجتماعي السني المتشابك بإحكام في دمشق. وهو ما جعله في حالة الدخيل وبتهمة مضاعفة؛ فمن جهة، بدا أنه في محل ثقة بالنسبة لديكتاتور يُعتبر هو ذاته وافداً أيضاً، ومن جهة أخرى تحالُف الشيخ كفتارو مع النظام أثار استياء المؤسسة السنية، وهو ما جعل وجود تعاون بين المؤسسة السنية والشيخ كفتارو أمراً غير راجح، وبغياب دعم المكون السني القوي والجوهري، كان الشيخ حليفاً مثالياً للنظام، وكان لجماعته الصوفية المتمددة الفضل في تزويد النظام بالبنية المؤسسية والتنظيمية الجيدة والموثوقة الكفيلة بتطبيق الإسلام الرسمي، فعن طريق هذه الشبكة، رأى الإسلام السني الرسمي السوري النور على الصعيدين المحلي والعالمي.

يُعتبر التوسع الذي حصل لمقر الشيخ كفتارو في حي الأكراد في دمشق المعروف بـ "مجْمع أبو النور الإسلامي" من المؤشرات الواضحة على قصة النجاح هذه (Böttcher, 1998a: 156–64)، حيث يضم هذا المجْمع مدارس إسلامية وأربع جامعات ومسجداً كبيراً ومكاتب، ومكتبة وشققاً وغرف اجتماعات، بالإضافة للمقر الرئيسي لجمعية الأنصار الخيرية. وشهد مجمع أبو النور الاسلامي توسعاً على نحو هائل بعدما تولى حافظ الأسد زمام السلطة. وحلَّت قلعة كبيرة مكان المسجد القديم عام 1973، وتم تأسيس معهد الدعوة والإرشاد بعد عامين، وهو مدرسة إسلامية ثانوية. وفي عام 1974 تم تأسيس فرع عن أولى الجامعات الأربعة، وهي كلية الدعوة الإسلامية، والتي تم تأسيسها كفرع عن جمعية الشؤون الإسلامية ومقرها في ليبيا، وافتتح اللبنانيون كلية الدراسات الإسلامية عام 1989 كفرعٍ عن كلية الإمام الأوزاعي[9]. كما تأسست الجامعة الإسلامية في باكستان عام 1989، وتأسست كلية أركان الإيمان في السودان عام 1992، وهي فرعٌ عن جامعة أم درمان. تأسست هذه الجامعات لأن كلية الشريعة في جامعة دمشق رفضت رفضاً قاطعاً أن تتعاون مع منجزات الإسلام السني الرسمي (Böttcher, 1998a: 131–46). استجاب مجمع أبو النور الإسلامي لمطالب النظام، فعملوا على تدريب موظفين وخَدَمَة مساجد كان لهم دورٌ في دعم الإسلام السني الرسمي، ويحمل عدد من المسؤولين السوريين في وزارة الأوقاف شهادات الماجستير والدكتوراه من تلك الجامعات، كما هو الحال عند أصحاب المناصب العليا في مؤسسة مجمع أبو النور الإسلامي. جميع المناصب العليا لإدارة الجماعة الكفتارية في حوزة عائلة الشيخ الممتدة، حيث تمثل هذه النخبة حجر زاوية أفكار الجماعة، وهي التي زوّدها بمقومات التضامن، فهي تُسيطر على المصادر الاقتصادية والسياسية والدينية للجماعة الصوفية وتُنفذ أجندة الشيخ.

مجمع الشيخ أحمد كفتارو
مجمع الشيخ أحمد كفتارو

بالرغم من التأسيس المتين للبنية المؤسساتية وكثرة المريدين لدى مجمع أبو النور الإسلامي، إلا أنه لم يتحصل على الحصانة القانونية والرسمية، وبقي ضعيفاً أمام تدخلات النظام، فلا يوجد هناك أي قرار أو قانون يمنحه صفة الرسمية. ففي بدايات تسعينيات القرن الماضي، طالبت المخابرات العامة – من باب استعراض القوة – الإثباتات الرسمية لمجموعة من المراكز الإسلامية، وقد تم حل المشكلة وقتها عن طريق تدخلات من جهات عليا، إلا أن هذه الحادثة أثبتت هشاشة أسس الجماعة.

منذ ثمانينات القرن الماضي، التحقت أعداد كبيرة من الطلاب الأجانب من دول عربية ومن آسيا الوسطى وأوروبا وأمريكا بمجمع أبو النور الإسلامي للمشاركة ببرامج تدريبية لتعلم اللغة العربية والدراسات الإسلامية. وبزعامة صفوة الطريقة الكفتارية، أصبحت هذه البرامج أكثر احترافية وانطبعت بطابع أمريكي بعض الشيء بسبب دخول الأمريكان الذين اعتنقوا الإسلام. ففي صيف ١٩٩٣، كان أول وأكثف برنامج تدريبيٍ عالمي لأئمة ودعاة ومدرسي الدين الإسلامي الناطقين بالعربية والإنجليزية، وقد أثمرت هذه البرامج الصيفية عن نجاحٍ كبير لمجمع أبو النور الإسلامي، وهو ما أتاح له بناء علاقات مع العالم الإسلامي وتوسيع علاقته على الصعيد العالمي. إن قدرة مجمع أبو النور الإسلامي العالية على الاستجابة لشروط بناء الإسلام الرسمي كما رأتها الدول العربية جعلته المصدِّر الأول للتعليم الإسلامي في الشرق الأوسط، فقد قام مكتب رعاية الدعوة الإسلامية في الخارج في قسم التسويق التابع للمجمع بتوقيع عددٍ من المعاهدات الثنائية مع المراكز الإسلامية في الخارج، كما قام مريدو الشيخ كفتارو، القاطنون في بريطانيا وأمريكا، بتأسيس فرعٍ لمجمع أبو النور الإسلامي في مدينة بالتيمور التابعة لولاية ماريلاند باسم كلية مقاصد الشريعة. حيث قامت هذه الكلية في ربيع ٢٠٠١ بدعوة طلاب ناطقين بالإنكليزية في أول برنامج صيفي لها في دمشق[10]، وكان مخططاً أن يتم تسجيل البرنامج الصيفي بالصوت والصورة حتى يُستخدم لاحقاً كأساسٍ لمنهجٍ دراسي لجامعة إسلامية افتراضية على شبكة الإنترنت، تُعنى بتعليم الإسلام عبر الإنترنت للمواليد المسلمين ومعتنقي الإسلام في الغرب، كان هذا المشروع بدعمٍ من الشيخ ناظم القٌبرصي الحقَّاني، زعيم إحدى أكبر الطرق الصوفية النقشبندية في العالم.

أصبح مجمع أبو النور الإسلامي يُرى - وبشكل متزايد -  بصفته بوابة سوريا إلى العالم الإسلامي، وقد انعكس هذا في تنامي شعبية المجمع والدعم المالي الموجه له من أعضاء مجتمع رجال الأعمال السوريين. لا يلتزم هؤلاء مع الجماعة، ولكن يستعملونها كطريقةٍ للتعبير عن ولائهم للنظام، ومن أجل صياغة علاقات شخصية مع المجتمع الإسلامي في الخارج. يحتشد الدبلوماسيون والصحفيون والباحثون والسياح الأجانب بأعداد كبيرة في المجمع، ويعتني بهم قسم التسويق المزود بطواقم مُدربة بمهارة من كلا الجنسين، حيث يقوم مجمع أبو النور الإسلامي بتلميع الصورة الإسلامية للنظام الحاكم، والتي ما زالت مشوهة بسبب استراتيجياته القمعية المفرطة، ولكن بقي نجاحها بين الوسط السني في سوريا محدوداً جداً، وبقيت أيضاً عُرضة للنقد القاسي الموجه من قِبَل المؤسسة السنية.

مع تأجج الاشتباكات مع جماعة الإخوان المسلمين، أعاد النظام إحياء معاهد القرآن في سوريا، وبالرغم من أن هذه المعاهد لم تلقَ إقبالاً كبيراً في البداية من الشريحة السنية التي كانت مذعورةً من آثار الاستراتيجيات القمعية للنظام. ولكن، مع نهاية الثمانينات، برز اهتمامٌ متردد بمجالس القرآن، ثم توسع هذا الاهتمام على رقعة أكبر، خاصة لدى النساء، ففي حين كان أي نشاط ديني في موضع الرقابة من قِبَل النظام، لم يُلقِ النظام بالاً – إلى حدٍ ما  -بمجالس تحفيظ القرآن وتلاوته وتفسيره، وقد اتسق مجْمع أبو النور الإسلامي مع هذه السياسة، وقام مع بداية الـ ١٩٨١ بتأسيس معهد حافظ الأسد لتحفيظ القرآن الكريم، وتلا ذلك افتتاح المزيد من المعاهد المُدارة من قبل التلاميذ المقربين من الشيخ كفتارو، حتى وصل عدد رواد معهد القرآن الكريم في مجمع أبو النور في التسعينات إلى مايقارب الـ 2000 ملتحق.

تعاون المركز الثقافي الإيراني في دمشق بشكلٍ متزايد مع مجْمع أبو النور الإسلامي في تنظيم المسابقات القرآنية، وذلك ضمن النشاط المتزايد للإيرانيين في مجال التدريس الديني الشيعي في سوريا. هنا تبدو أحد صور الفُسح القليلة لمحاولات التعاون الديني بين السنة والشيعة مع تجاوزٍ عن الاختلافات العقائدية الحساسة. كما نظم المركز الثقافي الإيراني احتفالاً في مكتبة الأسد في دمشق في التسعينات، وشارك فيه المعهد التابع لمجْمع أبو النور الإسلامي. يعارض السوريون السنة القبول بحضور الشيعة الإيرانيين في سوريا، فلا يرونهم أكثر من مُجرد خادمين لسياسات استراتيجية، وكان مجْمع أبو النور السلامي هو الوحيد الذي يوافق على التعاون مع الشيعة الإيرانيين. يُعتبر الشيعة الإيرانيون والعراقيون من الزوار المتكررين للمجمع، فهم يَحضُرون صلاة الجمعة ويشاركون في بعض نشاطات المجْمع، فقد كان الشيخ نعيم القاسم أحد أبرز المتحدثين في البرنامج العالمي الصيفي المكثف للأئمة والدعاة والمدرسين المتحدثين بالعربية والإنجليزية في تموز ٢٠١١، والشيخ نعيم هو السكرتير الرسمي لحزب الله (الحركة اللبنانية المقاومة)، ومن كبار الشيعة الإثنى عشرية الذين درسوا على يد آية الله محمد حسين فضل الله في بيروت أحد المتحدثين الرئيسيين في البرنامج.

من أجل التطبيق الكامل لعملية التعاون النقشبندي – الشيعي، كان يمكن للشيخ كفتارو أن يُعيد تأويل بعض مقولات التعاليم النقشبندية التي تحتوي على أبعاد معادية للفكر الشيعي التي ما تزال حية، ولكنه لم يفعل ذلك، فالنظر المتفحص يكشف أن التقارب بين الشيخ كفتارو والشيعة الإثنى عشرية كان سطحياً ومجرد تنسيق رسمي بغرض إرضاء النظام السوري. فبعد ضمان مكانٍ له بين الشبكة الشائكة التي تجمع العلوية والشيعة الإيرانيين والشيعة اللبنانية والإسلاميين السنة في سوريا والخارج؛ استطاع الشيخ كفتارو أن يصون مصداقيته أمام أتباعه، ولكنه فقدَ ثقة المؤسسة السنية وعموم المجتمع السني، فلم ينسى السنة ما حدث أثناء المواجهة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السوري، وكيف أخذت إيران قراراً تكتيكياً ودعمت النظام السوري على حساب الإخوان المسلمين.
 
حركة النساء الصوفيات

منذ ثمانينات القرن الماضي، كانت استراتيجية الأسلمة في سوريا تعني تنشيط الحراك النسائي السني (Böttcher, 2002)، ففي خلال المواجهات العنيفة مع جماعة الإخوان المسلمين، أقدم النظام السوري على قتل واعتقال آلاف الرجال السنة، بينما رُحِّلَ آخرون إلى المنفى، وازدادت حدة التوترات إلى درجة أن المسلمين السنة كانوا يتعرضون للاعتقال بمجرد ذهابهم للصلاة في المساجد. وبهذا انحسر حضور الرجال السنة تحت حدة القمع، مما جعل النساء تنشط داخل المجال الإسلامي، مُتحدِّين سلطة الدولة لكن بأسلوبٍ ناعم. وعلى الأرجح بدأ هذا الحراك الكبير للنساء على يد قريبات الرجال الذي كانوا ضحايا لقمع النظام، وقد ساعد الفصل بين الرجال والنساء – والذي يتصف بالجمود لأسباب دينية وثقافية في سوريا – على انتشار الحراك الديني النسائي على نطاق واسع وبين مختلف الطبقات في المجتمع، فقد صعَّب هذا الفصل من عملية مراقبة النشاط النسائي السني في سوريا من قِبَل جهاز المخابرات السورية، فهذا الجهاز يستطيع العمل داخل مجال علماني يتصدره الرجال، وبالتالي فقد واجه صعوبة في التحديات التي يفرضها مجتمع مدني ينزع نحو التدين بتزايد، وقد أدركت النساء السنة ذلك وعملنَ بهدوء على احتلال أحد المساحات القليلة غير المحكومة في المجتمع المدني، فبدأت العديد من الفتيات والنساء السنيات من بنات الحضر بدارسة الإسلام في حلقات داخلية، يحفظن فيها القرآن ويتعلمن تفسيره وتلاوته، كما يدرسن فيها التاريخ وأساسيات الفقه الإسلامي.

 
وعن طريق هذه الحلقات المبتدئة، يمكن للطلبة أن يُطبِّقوا مبادئ الشريعة على حياتهم اليومية الشخصية والعائلية. لكن في المستويات من الحلقات العليا، قد تصبح الرسائل التي تُقدمها المعلمة ذات طابع أكثر سياسية. تقرأ الحراكات الإسلامية النسائية المتخفية - كالقبيسية أو الأخوات المسلمات – كتباً إسلامية محظورة في سوريا، وهي معروفة بشكلٍ خاص عند الطبقة العليا من النساء والفتيات الذين عادوا إلى سوريا بتعليمٍ غربي، باحثين عن دراسات فكرية إسلامية أكثر تحدياً. لقد أدرك النظام أنه لن يتمكن من إيقاف نمو الشبكة الإسلامية للنساء، لذا عمل على توفير بنيته التحتية الخاصة لاستيعاب النساء السنة الباحثات عن الدراسات الإسلامية.

ومن هنا، تلقى الشق النسائي من الطريقة الصوفية الكفتارية دعماً كبيراً من النظام، كما كان الشيخ كفتارو يشجع دائماً على تعليم النساء والفتيات ويحثُّهم على المشاركة الفاعلة في الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية. وقد حصلت النساء في مرحلة مبكرة من خمسينيات القرن الماضي على مساحة في مسجد أبو النور للمشاركة في الدروس وحضور صلاة الجمعة. ومنذ تلك الفترة، أسس الشيخ كفتارو جيلين من النساء عن طريق ابنته الشيخة وفاء كفتارو، وهو ما جعلها من الشيخات البارزات، فقد تم تدريبها على مسار المشيخة والقيادة على يد والدها ومشايخ وشيخات آخرين، وهي تترأس معظم الفرع النسائي من الطريقة الكفتارية، كما كانت مشرفة على المدارس والجامعات التابعة لمجْمع أبو النور الإسلامي لفترة طويلة(Böttcher, 1998b: 129-31).. كما كانت الزوجة الثانية للشيخ كفتارو، صباح الجبري - والتي تزوجها الشيخ بعد وفاة زوجته الأولى عام ١٩٩٢ – تكتسب تأثيراً كبيراً ضمن النشاط النسائي. تنشط النواة الأساسية لنساء الطريقة الكفتارية في مجالات الدعوة وتربية المسلمين على الوعي بهويتهم الإسلامية والدعوة إلى الإسلام (Böttcher, 1998b: 131–37)، وقد انتشروا في مختلف أرجاء دمشق، وسيطروا على ميدان التعليم في المساجد الرسمية، ومع نهاية التسعينيات، كانت معظم الدروس عن الإسلام التي تُتَلَقَّى في المساجد داخل وخارج سوريا يقدمها النساء التابعات للشيخ كفتارو، كما تم تعيين كل من ابنته وزوجته كمعلمات رسميات في المساجد عن طريق وزارة الأوقاف الإسلامية، وذلك بالرغم من كون المناصب الثابتة محدودة جداً وغير متاحة عادةً للنساء، كما لقي نمو الفرع النسائي داخل الطريقة الكفتارية ترحيباً حاراً من النظام، فنشاطاتُهم المنظمة بشكل جيد في دمشق تهدف إلى سحب التدريس الاسلامي من المنازل الخاصة ونقله إلى المجال العام، أي في المساجد ومعاهد القرآن والمراكز الإسلامية، وبالتالي تقليص فرص حضور التعاليم السنية المعادية للنظام.

المنتدى الإسلامي السوري الأول

تحت حكم حافظ الأسد، تم عقد حوالي سبعين منتدى لمناقشة قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية في سوريا، معظم هذه المنتديات كانت بتنظيم من مثقفين ورجال أعمال وسياسيين علمانيين. ولكن في تموز 2001، أُتيح لمحمد حبش – وهو عضو بارز في الطريقة الكفتارية – أن يفتتح أول منتدى إسلامي. الشيخ حبش مُتزوج من إحدى حفيدات الشيخ أحمد كفتارو، وقد شقَّ طريقه داخل مجْمع أبو النور الإسلامي، وبمساعدة الشيخ كفتارو، أصبح فيما بعد مسؤولاً عن قسم التعليم الإسلامي في وزارة الأوقاف الإسلامية في دمشق. يُعد الطابع الصوفي في المنتدى الإسلامي السوري من الأمور المُلاحظة، فهو منظمٌ بقيادة أبرز رموز النقشبندية الممثلين عن الإسلام الرسمي. وبمجرد ترخيص المنتدى فإن النظام يكون قد نجح في رفع مستوى تحالفه مع المجْمع والترويج له على نطاقٍ أوسع. قبل فترة من رواج المؤتمرات في سوريا، كان المجمع في الواقع أحد المساحات القليلة التي تعقد فيها المؤتمرات والمحادثات والمناقشات حول الإسلام، والموجَّهة لجمهورٍ مُنتقى.

الطريقة الصوفية الخزنوية في شمال شرق سوريا

هناك شيخٍ صوفي كردي آخر ينتمي للتقليد النقشبندي، وهو الشيخ محمد الخزنوي، يجذب العديد من المتابعين في سوريا، ويقع مقر طريقته الصوفية المُسمَّاة بالطريقة الخزنوية في تل معروف قرب مدينة القامشلي الواقعة على الحدود التركية. ومثل الكثير من الأكراد، هاجر أجداد الشيخ من تركيا إلى سوريا هرباً من السياسات الليبرالية تجاه المسلمين والأكراد التي كانت تمارسها سلطة الانتداب الفرنسية (van Bruinessen, 1998: 30). في 1969. ورث الشيخ زعامة الطريقة عن والده الشيخ عز الدين (al-Arif billah, n.d.: 78)، الذي أخذ تعاليمه عن الشيخ الجنيد صاحب الفضل في تأسيس العديد من شيوخ النقشبندية البارزين في الشرق الأوسط، ثم أصبحوا فيما بعد رُواداً لجماعات صوفية مؤثرة في الشرق الأوسط والعالم[11].

مقر الطريقة الخزنوية في تل معروف /القامشلي
مقر الطريقة الخزنوية في تل معروف /القامشلي

تشبه الطريقة الخزنوية الطريقة الكفتارية في جوانب عديدة، فقد تأسست مدرستها الإسلامية عام 1920، كما افتتحت في المركز الإسلامي التابع لها فرعاً لجامع الأزهر الكائن في القاهرة. وتعمل زوجة الشيخ الخزنوي – وهي المُؤسَّسَة على طريق المشيخة – على توجيه النشاط النسائي للطريقة. تحظى الطريقة الخزنوية بمتابعةٍ كبيرة بين الأكراد في الشرق الأوسط، وتمتلك أفرعاً لها في كافة التجمعات الكردية المهاجرة في أوروبا وأمريكا (Qasim, 2001: 19)، فمعظم أتباع الطريقة هم من الأكراد، ويقع مقرها في قلب كردستان.

الإسلام الكردي كممثلٍ للإسلام الرسمي في سوريا

من منظور المؤسسة السنية السورية، فهي ترى صعوداً مفاجئاً في نسبة الأكراد الناشطين في سياسات الإسلام الرسمي السني. يُظهر حجم وتنظيم بنية الطريقتين الصوفيتين النقشبندية أن الإسلام الرسمي السني مُسيطرٌ عليه - وعلى نحوٍ واسع -  من قٍبَل الإسلام الصوفي ذو التقليد النقشبندي الذي يعود دُعاته إلى الأصول الكردية، حيث يمكن أن يتواجد.

تيعاب المحددات السياسية والاقتصادية والتشريعية للدول المستضيفة لهمالصوفيون المتمرسون ذوو الأصول الكردية في المناصب الأساسية المعنية بتدريس الإسلام وفي وزارة الأوقاف والتلفزيون السوري. لقد كان نظام حزب البعث تحت حكم حافظ الأسد محبطاً من المؤسسة السنية السلفية لرفضها الصارم للتحالف، وقد تدهورت الشرعية الدينية للنظام وصورته أمام العالم الإسلامي بعد المواجهات العنيفة مع جماعة الإخوان المسلمين، لذا فقد كان في حاجةٍ ماسة لمساعدة الأفراد والمؤسسات كي تُحسِّن من هذه الصورة المشوهة، وحتى تُضفي الشرعية على سلطته الدينية والسياسية، ومن هنا ازداد اهتمام النظام بالطرق الصوفية النقشبندية، كما كان للنجاح الذي حققه بعد تحالفه مع الطريقة الكفتارية أثرٌ في تشجيعه على توسيع تحالفاته مع الجماعات الصوفية، كتلك التي في لبنان مثلاً. ويجب ألا ننسى أن هذا التحالف يُمثِّلُ بالنسبة للقادة الفاعلين في الجماعات الصوفية فرصةً لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والسياسية السيئة، فقد أصبح قادة هذه الجماعات الفاعلة وسطاء يستطيعون مساعدة تلاميذهم في التعامل مع مؤسسات الدولة، كما يوفر هؤلاء القادة شبكة اقتصادية قوية توفر الخدمات الاجتماعية والدعم الخيري.

أحد أهم رموز الساحة الإسلامية أيضاً من أصول كردية: وهو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي يُعد قريباً من التوجه النقشبندي السني – شديد القوة - في سوريا، وقد أنتج عبر العقود عدداً كبيراً من الكتب حول الإسلام والقضايا المرتبطة به، والتي تُقرأ بحماس من قِبَل المسلمين السنة داخل وخارج سوريا، كما كان له الفضل في تأسيس جيلٍ جديدٍ من الذكور والإناث السنة في كلية الشريعة في جامعة دمشق، وذلك بالإضافة إلى دوره كداعية في مسجدٍ صغير في الوسط الكردي في دمشق، من بين هذا الجيل ابنه الذي يُدرِّس في نفس الكلية. في حين يُعتَبَرُ التوجه السلفي الإسلامي معادياً للتصوف، إلا أنه يبدو أكثرَ تسامحاً مع النقشبندية.

يعود قرار اختيار المتصوفة الأكراد كمسيطرين على الإسلام السني الرسمي إلى حافظ الأسد، وذلك كَردِّ فعلٍ على رفضِ مجموعة من العلماء قرار التحالف مع السلطات. عَمِلَ الأسد على انتقاء وتفضيل الأقليات الطائفية، وفضل التوجه الصوفي على السلفي، وآثر الأكراد – كأقليةٍ عرقية – على العرب. هذا الحليف ليس لديه بديل عن ذلك ، حيثُ يُعتبر الأكراد في سوريا من أكبر الأقليات الإثنية غير العربية التي تضُم حوالي 4.3% من السكان، (Human Rights Watch, 1996). بين ال 67465 كردي (بحسب جداول الحكومة السورية ) وال 200000 كردي (بحسب مصادر كردية)، مُنعوا من حقِّ الحصول على الجنسية السورية حتى لو كانوا من مواليد سوريا (Meho, 1995: 37)، وغير مسموح لغالبية الأكراد أن يتملكوا الأراضي أو الإسكانات أو المشاريع التجارية، ولا يمكن أن يتوظفوا في الوظائف الحكومية أو الشركات والمشاريع المملوكة للدولة، كما لا يمكن لهم أن يمتهنوا المهن الهندسية أو الطبِّية، وهم غير مؤهلين للحصول على الدعم الغذائي أو التسجيل في المستشفيات الحكومية، ولا يسمح لهم بالتصويت في الانتخابات والاستفتاءات أو الترشح للمناصب العامة، والزواج من المواطنين السوريين غير معترفٍ به قانونيا؛ ومن دون جوازات سفر أو أي وثيقة سفر معترف بها دولياً، أضحى الأكراد محاصرين - بالمعنى الحرفي - في سوريا (Human Rights Watch, 1996; Nida ul Islam Magazine, 1997). ومع أخذ وضع الأكراد في سوريا والشرق الأوسط بعين الاعتبار (Meho, 1995: 38)، فإن وجود دعم ووساطة قوية مع النظام يمكن أن يُضمن عبر الالتزام مع جماعةٍ صوفية واسعة، حيث تتحدر الكثير من العائلات والعشائر الكردية تاريخياً من الطرق الصوفية النقشبندية والقادرية، وهم مهتمون ومستفيدون من إعادة احياء ونمو هذه الروابط.

تأسيس الإسلام الشيعي الرسمي

بالنسبة للكثير من السنة، فإنهم لا يعتبرون العلوية من الطوائف المسلمة، وذلك نظراً للخلافات العقدية بين السنة والعلوية. وموضع الإشكال يكمن في أن الدستور السوري  يؤكد على أن رئيس الدولة ينبغي أن يكون مسلماً، ولكن إذا كان العلويون غير معتبرين داخل دائرة الإسلام بالنسبة للسنة، فهذا يضع الشرعية السياسية لرئيس الدولة موضع التساؤل (Donohue, 1972-1973: 81-96)، وهذا الجدل الطائفي يمثل تهديداً بالنسبة للنخب الحاكمة. وتكمن إحدى طرق إثبات انتماء العلوية للطوائف المسلمة في العمل على تطبيق مبدأ التقارب بين المدارس الفقهية الإسلامية، وهو ما يُطلق عليه بالتقريب. ولكن بالنسبة للعلوية، فالتقريب يتضمن سمات مشتركة بين كل من الطائفة الشيعية الإثنى عشرية والعقيدة العلوية، وهو ما ينبني عليه اعتبار العلوية واحدةً من الطوائف الشيعية. تعود هذه الجهود إلى عهد الإمبراطورية العثمانية، وقد تم إعادة تنشيطها بقوة الانتداب الفرنسي. وفي الخمسينيات، اعتمد بعض الأعضاء الكبار في الطائفة العلوية تنظيماً معيناً وأفكاراً تشريعيةً مستقاةً من الفقه الإسلامي الشيعي الإثنى عشري كنتيجة لهذا لتقريب. ومنذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة، أصبح التقريب سياسة رسمية للسلطة (Kramer, 1987b: 239-46; Mervin, 2000: 321-27)، فمع إصرار المؤسسة السنية الرسمية على فرض المنظور العقائدي أو الطائفي في تشكيل تصورهم عن السياسية في الإسلام، أصبح عند حافظ الأسد مجرد خيارات قليلة، فسياسة التقريب التي تبناها مثلت دوراً فاعلا للاستراتيجية السورية في الشرق الأوسط. وهو ما قدَّم لها شركاء محل ثقة لتطبيق هذا التقارب، أعني هنا الشيعة الإثنى عشرية في إيران ولبنان، فقد تم تأسيس روابط متشابكة مع المجتمع الدولي الشيعي الإثنى عشري بين سوريا وإيران ولبنان، وذلك بالبناء على مثلث العلاقات العسكرية والاقتصادية والسياسية. وبعد وفاة حافظ، سار بشار الأسد – رئيس سوريا الجديد – على خُطى والده، بل لقد قال مرة أن لديه ميلاً شخصياً نحو الشيعة الإثنى عشرية، خاصة التأويل الخاص بآية الله حسين فضل الله[12].

الإسلام الشيعي الإثنى عشري الإيراني

كمقابل للدعم العسكري والسياسي الإيراني، منحَ حافظ الأسد حريةً كبيرة لنشاطات الشيعة الإثنى عشرية في سوريا، وقد كان التفسير المُعتاد للوجود الإيراني في سوريا هو حاجة سوريا للشرعية الإسلامية. لكن إيران استفادت أكثر من سوريا في هذا التحالف. لقد كانت الروابط بين النظام السوري وأعضاء المؤسسة الثورية الإيرانية موجودةً في الفترة التي كانت تلك الأخيرة معارضة للشاه (Karmer, 1987b: 250)، وبالنسبة للجمهورية الإسلامية في إيران، فإن الفرصة الذهبية التي أتيحت لها للتوسع في الأقاليم السورية جاءت في الفترة التي كانت فيها إيران مستغرقةً في حرب العراق. مما يعني أن المناطق التي تحظى بأهمية دينية بالنسبة للشيعة الإثنى عشرية الإيرانيين في العراق – أي النجف وكربلاء- كانت صعبة الوصول، وهو ما جعل إيران ترى في سوريا فرصةً لملء هذا الفراغ، ومن هنا أصبح الوجود الإيراني الشيعي الإثنى عشري منذ فترة التسعينات واضحاً في سوريا. وبفضل رجال الأعمال المحليين، تم تطوير المزارات الدينية الإثنى عشرية – مثل مقام السيدة زينب في أطراف سوريا، ومقام السيدة رقية في المدينة القديمة في دمشق، ومدينة الرقة شمالي سوريا – حتى أصبحت مراكز مزدهرة للحج والسياحة والدراسات الدينية، وتجذب هذه المزارات في كل عام آلاف الحجاج من إيران وحول العالم، وعبر السنوات، كان هناك موجات لا نهائية من العلماء والطلاب القادمين من إيران لزيارة سوريا ولبنان، حيث يقوم الكثير منهم بزيارة المزارات الشيعية في دمشق وحلب، ثم يُكملون عبر وادي بكة إلى بيروت وجنوب لبنان. ومنذ منتصف التسعينيات، كانت تُنظم حملات حج للشيعة الإثنى عشرية اللبنانيين لزيارة سوريا في المناسبات المميزة، كذكرى ميلاد أو وفاة أحد الأئمة الإثنى عشر. وازدادت متاجر بيع الكتب والمقتنيات المنزلية والرموز الدينية حول هذه المزارات الدينية في سوريا، كما استقر هناك المئات من الطلاب وعلماء العقيدة والفقه الشيعي الإثنى عشري وأسسوا دور نشر ومعاهد دينية، لاسيما عند مقام السيدة زينب، وكان لنمو هذه البنية التحتية الفضل في استضافة رموز الشيعة الإثنى عشرية المنفيين من العراق والخليج.

صورة تجمع من اليمين موسى الصدر ، حافظ الأسد، أحمد كفتارو
صورة تجمع من اليمين موسى الصدر ، حافظ الأسد، أحمد كفتارو
 
إن النشاط الشيعي الإيراني في سوريا مُنسَّقٌ ومتحكم به من قِبَل السفارة الإيرانية والمركز الثقافي الإيراني في دمشق، حيث تعتمد السفارة الإيرانية في دمشق على وزارة الشؤون الخارجية في طهران المسؤولة كذلك عن صناعة القرارات فيما يخص العلاقات الإيرانية في لبنان مع السفارة الإيرانية في بيروت التي تملك دوراً ثانوياً. لقد تسببت العلاقات الملتوية بين كلتا السفارتين بالعديد من التوترات، وهو ما ظهر في بقاء منصب السفير الإيراني في بيروت شاغراً لفترة من الزمن لعدم قبول أي دبلوماسي بالعمل تحت هذه الشروط، فالمركز الثقافي الإيراني في دمشق يتعامل مع الشؤون الدينية والثقافية بالاعتماد على توجيهات وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في طهران. تقع مسؤولية تنسيق الفعاليات المتعلقة بالتقارب على المركز الثقافي الإيراني، حيث نظمت خلال العقود الأخيرة معارض قرآنية ومسابقات تلاوة القرآن، بالإضافة للمحاضرات والمؤتمرات الضخمة. كما يتم تنظيم مؤتمرٍ إسلامي سنوي لإحياء ذكرى وفاة الإمام الخميني، وتتم فيه دعوة المئات من الأعلام المسلمين والنشطاء الإسلاميين والزعماء المعارضين حول العالم الإسلامي إلى دمشق لحضور الندوات. في منتصف التسعينات، غيرت السياسة الإيرانية سياساتها ببطء، واستولى أتباع خاتمي على السلطة، وتم إعادة تعريف التحالف السوري- الإيراني فيما يخص الشؤون الثقافية.

الإسلام الشيعي الإثنى عشري اللبناني في سوريا

أثناء وجود التحالف الإيراني الرسمي، حاول النظام السوري أن يوازن التأثير الإيراني في سوريا وفي الشرق الأوسط عن طريق إعطاء مساحةٍ للشيعة العرب. ولذلك عمل على إعطاء الفرصة للعلماء الشيعة الإثنى عشرية من العراق والخليج ولبنان للتعليم والكتابة والنشر في سوريا، ومن بينهم أتباع آية الله محمد الشيرازي وأخوه حسن الذي يملك عدداً من دور النشر ومحلات بيع الكتب في سوريا ولبنان، والتي تم عن طريقها طباعة ونشر أعمال آية الله وتلاميذه، كالشيخ حسن الشيرازي ومحمد تقي المُدَرَّسي، وهم جميعاً من كربلاء في العراق (Rosiny, 2000: 27). فر حسن الشيرازي من كربلاء إلى لبنان في ١٩٧٠ وعَمِلَ في التدريس هناك، وقُتل في بيروت عام ١٩٨٠، حيث يبدو أنه كان من أنصار التقريب بين العلوية السوريين والشيعة الإثنى عشرية (Karmer, 1987b: 249).

مع السيطرة السورية على لبنان منذ ١٩٧٦، توجهت السياسة السورية فيما يتعلق بالإسلام الرسمي إلى اشتمال المناطق اللبنانية أيضاً، وهو ما يعني وبالنسبة للجماعات الداعمة للنظام السوري الحصول على امتيازات إضافية تتمثل في الوصول إلى المناطق اللبنانية كأسواق جديدة للتوسع عبر الحدود.

منذ سبعينات القرن الماضي، تم تصدير الإسلام الرسمي السوري إلى لبنان، حيث يعود حضور الشيخ كفتارو في لبنان إلى عام ١٩٦٩، وذلك عندما أرسل أحد أكثر أتبعاه الثقات، الشيخ رجب ديب، في رحلةٍ دعوية إلى بيروت خلال شهر رمضان. كان الشيخ رجب يمر إلى بيروت كل أسبوع ولعدة سنوات للدعوة والعمل على بناء جماعة صوفية هناك، وقد تم تسمية هذه الجماعة المتفرعة عن الكفتارية فيما بعد بالطريقة الرجبية، ويتزعمها اليوم الشيخ محمد زيات الصاحب، والذي تلقى تعليمه في مجمع أبو النور الإسلامي في دمشق، وهو ومتزوج من إحدى بنات الشيخ رجب، وتملك الطريقة الرجبية جمعية خيرية ونادياً صحياً والعديد من المساجد والمدارس. منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان في ١٩٩٠، اكتشف الكثير من الأكراد أصولهم الصوفية، وعندما زار الشيخ محمد الخزنوي بيروت للمرة الأولى في منتصف التسعينات، تجمهر حشدٌ كبير لرؤيته، وتبعه الكثير فيما بعد لأخذ البيعة منه والبقاء معه بغرض طلب العلم.

في ذات الوقت، فإن القبضة العسكرية والسياسية والاقتصادية السورية الصارمة على لبنان منذ ١٩٧٦ كانت الشرط الأساس لاستدخال الإسلام اللبناني داخل نطاق المشهد السوري. فقد ساعدت السيطرة السورية على مراكز صنع القرار اللبنانية في تسهيل الدعم الإيراني والسوري لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، لا سيما حزب الله (Ranstorp, 1997: 30–38 and 45–70)، كما ساعدت على تنظيم المجتمع الشيعي الإثنى عشري اللبناني النامي. فقد كانت الطائفة الشيعية الإثنى عشرية في لبنان مجرد طائفة تفتقد للبنية المنظمة وللقدرة على التأثير على دوائر صنع القرارات السياسية والاقتصادية الخاصة ببلادهم، وباستثناء وجود عدد من الشخصيات الشيعية المؤثرة والغنية من عائلات ملاك الأراضي-  مثل عائلة عسيران أو الأسعد - والذين لطالما تولوا مناصب سياسية عليا؛ فإن أغلب شيعة جنوب لبنان – الذين يسكنون في وادي البقاع وفي ضواحي جنوب بيروت – كانوا يعيشون في حالة بائسة. فعلى الصعيد العملي، لم يمنحهم النظام الطائفي أي طريق للوصول إلى النظام التعليمي والسياسي. وقد استمر الحال على ذلك إلى أن جاء موسى الصدر، رجل الدين الإيراني الذي استقر في لبنان عام ١٩٥٩،حيث بدأ الشيعة بتنظيم أنفسهم. فقد قام الصدر بتوحيد الشيعة الإثنى عشرية في لبنان وتحويلهم إلى حركة سياسية، وأسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وهو مجلسٌ يقوم على حكم شيعي ذاتي (Ajami, 1986)، كما تم ضم حوالي الـ٢٠٠٠٠ علوي من طرابلس والعكار إلى الهيكل التنظيمي للشيعة الإثنى عشرية (Kramer, 1987b: 246–49). ولكن مع اختفاءه في ليبيا عام ١٩٧٨، فَقَدَ الشيعة أهم شخصيةٍ كاريزمية كانت تمثلهم، وانقسم تنظيمه بين رجلين: نبيه بري الذي أصبح زعيم حركة "أمل"[13]، وهو محامٍ ورجل عصامي من مواليد سيراليون، كان عضواً في حزب البعث ويتمتع بعلاقات ممتازة مع سورية ومع إيران بدرجة أقل، وآية الله شمس الدين الذي أصبح نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى. كانت الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ نقطة تحول للمجتمع اللبناني المسلم بشكل عام، وللوسط الشيعي الإثنى عشرية بشكل خاص، ذلك أن تأسيس الجمهورية الإيرانية الشيعية ساهم في إعلاء نزعة تأكيد الذات الإسلامية. فبعد ثلاث سنوات، شنت إسرائيل الحرب على لبنان، وبالرغم من نهاية التهديد الذي احدثته منظمة التحرير الفلسطينية باستعمالها لبنان كإقليم لضرب إسرائيل؛ إلا أن الحسابات السياسة والاستراتيجية الإسرائيلية كانت مُخطِئة تماماً، حيث رفض الشيعة التعاون مع القوات الحربية الإسرائيلية، وقاموا بدلاً من ذلك ببناء حركة مقاومة، تولاها فيما بعد الجناح الراديكالي لحركة أمل، أمل الإسلامية، ومن هنا كانت بداية حزب الله.

يرتبط انبثاق حزب الله بشكلٍ كبير بمسيرة أبيها الروحي آية الله محمد حسين فضل الله، الذي تعود أصول عائلته إلى مدينة عيناتا في جنوب لبنان، وقد درس والد آية الله فضل الله في النجف إلى أن وصل إلى مرتبة المجتهد. وُلِد فضل الله في النجف ودرس في البداية على يد والده وعمه، ثم التحق بعلماء بارزين مثل محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي (al-Surur, 1992: 33–44). وبعد زيارات قصيرة إلى بلده الأم في الخمسينات والستينات، عاد آية الله فضل الله إلى بيروت عام ١٩٦٦ واستقر في النبعة، وهو حيٌ فقير في شرق بيروت (al-Surur, 1992: 54–56)، ومارس التدريس وعَمِلَ هناك دون أن يلفت الكثير من الانتباه.
رجل الدين الشيعي محمد حسين فضل الله
   رجل الدين الشيعي محمد حسين فضل الله
 لكن بعد حرب إسرائيل على لبنان عام ١٩٨٢، أُجبر فضل الله على الخروج من شرق لبنان ليستقر به الحال أخيراً في بئر العبد - حي في الأطراف الجنوبية لمدينة بيروت – حيث مارس التدريس والوعظ في مسجد صغير هناك. وبعد سقوط قذيفة مروعة  كادت أن تكلفه حياته، انتقل لأسباب أمنية إلى حيٍ قريب اسمه حارة حريك، حيث

985: 551).ki,كان حكمت شهابية طيفترة طويلأوسط، لذا فمن ة والمحلية اذقيةبنى هناك مسجداً كبيراً يحتوي على مجمعٍ يتضمن مستشفى بهمن، ومكتب علاقات أجنبية ومركز ثقافي ومكتبة. إن تأويل فضل الله للإسلام الشيعي الإثنى عشري باعتباره لاهوت تحرير ضمن المشهد السياسي والعقدي، وتحليله النقدي لسياسات إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا في الشرق الأوسط ومناشداته الكاريزمية؛ كل ذلك جعل منه أكثر شخصية دينية مؤثرة في الوسط الشيعي الإثنى عشري في داخل وخارج لبنان، حيث تُعتبر تحليلاته السياسية وفتاواه الحجر الأساس للشرعية الدينية والسياسية لحزب الله، وهو يدعم المثلث اللبناني-السوري- الإيراني بقوة، وهو ما عَّبر عنه مرة خلال خطبة الجمعة في تاريخ ٢٦ يناير ٢٠٠١:

أُحب أن أحتفي بالعلاقات الاستراتيجية بين سوريا وإيران، والتي أصبحت مؤسسةً على نحوٍ جيد بحيث تخدم مصالح العرب والمسلمين، خاصة أولئك الذين في لبنان، فكلا البلدين يقفان سويةً لدعمِ المجتمع اللبناني في صراعه ضد الاحتلال. وبالإضافة إلى ذلك، تدعم إيران سوريا في تحرير أراضيهم المُحتلَّة (مرتفعات الجولان)، كما تدعم الانتفاضة الفلسطينية التي تهدف إلى تحرير الأراضي الفلسطينية المُحتلَّة والمزارات المُقدسة التي تعود لكل المسلمين[14].

مثل حزب الله، كان آية الله فضل الله شديد الحذر إزاء نقد السياسة السورية. يتجمهر الكثير من أعضاء حزب الله في مسجده الكائن في حارة حريك جنوب بيروت لحضور دروسه وخطبه، يقع مكتبه ومقر جماعته الدينية والسياسية بمكان ليس بعيد عن المسجد، ويسكن السيد حسن نصر الله - السكرتير العام لحزب الله - بجوار منزل فضل الله، ومثل الكثير من الناشطين في حزب الله، درس نصر الله على يد آية الله فضل الله خلال فترة السبعينات. وفيما بعد، أصبح الشيخ نعيم القاسم – وهو نائب السكرتير العام- يحضر "درس الخارج"، والذي يتم في خمسة أيام من كل أسبوع في ساعات الصباح الباكر في المنزل الخاص بآية الله فضل الله، ولا يحضره إلا الشيوخ أصحاب المراتب المُتقدمة الذين يتمكَّنون من خوض المسائل ذات التخصصية العالية في مجال الفقه الشيعي الإثنى عشري.

أكسبت تعاليم آية الله فضل الله المنضبطة، ومواقفه غير المداهنة في القضايا المالية والقوة السياسية، أتباعاً كثراً داخل وخارج لبنان، ففي كل عام على الأقل هناك كتاب يصدر له أو ﻷحد تلاميذه. وتحظى كُتبه بتداول كبير مما أكسبه سمعة العالم الشيعي المنفتح، وقد أكسبه كتابه "رسالة العملية" شرعية دينية مسلَّم بها كعالم ديني على درجة عالية جعلته يحظى بمرتبة "المرجع"، حيث تُعتبر أحكام وفتاوى المرجع فيما يخص الأسئلة المُتعلقة بتطبيق الفقه الشيعي موضع ثقة بالنسبة لملايين الشيعة حول العالم (Fadlallah, 2001). لكن في نفس الوقت، تُعتبر المرتبة التي وصل لها فضل الله بمثابة تهديد للنخب السياسية الحاكمة في إيران، فهم يُفضِّلون أن تكون المرجعية بحوزة آية الله من إيران بحيث يكون تحت سيطرتهم بدلاً من أن يكون عربياً رفيع المقام من لبنان، ولذلك تدهورت علاقة آية الله فضل الله مع بعض العلماء المؤثرين في إيران لفترة من الزمن، وهو ما انعكس على علاقته مع حزب الله (Ranstorp, 1997: 43)، فبالرغم من كون آية الله فضل الله هو الأب الروحي لحزب الله، إلا أن الحزب غير مُستعد أن يضحي  بالدعم الإيراني، وذلك لمكانتها الحيوية في استمراريته السياسية والعسكرية. إن أي أحدٍ يتحقق ببلوغه لمرتبة المرجع وتمثيل المرجعية الشيعية يحرم غيره من المرجعيات من الحصول على حصتهم من صدقات الشيعة، من بين ذلك الحقوق الشرعية والخُمس، فكلما ازداد عدد أتباع المرجع، ازدادت معه مجموع الصدقات الذي يتلقاها لتمويل مشاريعه وجماعته، وهو ما يُقدَّر بملايين الدولارات.  وبما أن سُمعة آية الله فضل الله باعتباره مرجعاً منفتحاً، فهذا يجعله يحظى بشهرة كبيرة بين الشيعة الإثنى عشرية، خاصةً رجال الأعمال الذين يتبرعون بمبالغ ضخمة لدعم مشاريعه. ولكن عادت  العلاقات لتتحسن بين آية الله فضل الله والحكومة الإيرانية بعد إعادة انتخاب الرئيس سيد خاتمي في حزيران ٢٠٠١.

يُمضي آية الله يومين ونصف من كل أسبوع عند مقام السيدة زينب كفترة راحة من برنامجه اليومي المجهد والدروس التي يلقيها على طلابه في بيروت.

 
 تَعتَبِر التحليلات السياسية الغربية أن وجود فضل الله في سوريا يأتي من دوافع سياسية بحكم علاقته مع حزب الله (Kramer, 1987a: 11–16)، بالإضافة لدعمه القوي للمثلث السوري الإيراني واللبناني الاستراتيجي؛ ولكن الاكتفاء بتفسير وجود فضل الله في سوريا ﻷسباب متعلقة بالتحالف السياسي والعسكري سيكون مخلاً وغير منصفاً للتراث العريض للتقاليد الثقافية والدينية للشيعة العرب داخل حدود سوريا، والتي كان يُطلق عليها سابقاً بلاد الشام. ذلك أن آية الله فضل الله يشعر بالمسؤولية تجاه استكمال الجهود التعليمية لمحسن الأمين (١٨٦٧-١٩٥٢)، والذي يُعد من أبرز العلماء والإصلاحيين ضمن الوسط الشيعي اللبناني، وقد درس مُحسن الأمين في النجف، ثم عاش فيما بعد في دمشق لأكثر من خمسين سنة (Mervin, 2000: 161–75; Ajami, 1986: 76-84).

أسس آية الله فضل الله عبر السنوات البنية التحتية الخاصة به عند مقام السيدة زينب، فعَمِلَ على تأسيس حوزة المُرتضى عام 1992، وهو معهد للدراسات العقدية العليا للطلبة الذكور، واُفتتح الفرع النسائي الخاص بها بعد أربع سنوات، ويستضيف المعهد ٩٠ طالباً حول العالم الإسلامي و١٥٠ طالبة من سوريا ولبنان وإيران. وفي ١٩٩٦ انتقل المعهد إلى مبناهم الخاص، وهو مبنى إسمنتي بسيط مكون من طابقين،  يقع خلف المسجد الكائن عند مقام السيدة زينب، وذلك بتمويلٍ من منحة خاصة قدمها أغنياء شيعة من الكويت.

ويتم تأمين الأجرة الشهرية من جمعية مبرات الخيرية في بيروت التابعة لفضل الله[15]. لا يوجد تدخُّل من وزارة الأوقاف الإسلامية السورية ولا من وزارة التعليم العالي السورية في تنظيم المعهد أو مناهج التعليم، وخلال فترة الزيارة الأسبوعية التي يقوم بها آية الله فضل الله إلى سوريا، يعمل على تقديم مجموعة من المحاضرات حول البلاد، وهي تحظى باستقبال حافل، خاصة من قبل القيادات العليا العلوية في الجيش، كما يدرس أبناء عائلات الزعماء العلوية من اللاذقية في معهد الفقه والعقيدة الشيعية في بيروت التابع لآية الله، كاستمرار لتاريخ تعلُّم العلوية في مؤسسات التعليم العالي الشيعية الإثنى عشرية في هذه المواضيع (Kramer, 1987b: 243).
 
الخلاصة

منح النظام السوري مساحات ضيقة لتتحكم بها فئةٌ قليلة مُختارة، هي التي وُكِّلت إليها مهمة إدارة الإسلام الرسمي. وتحت حكم حافظ الأسد، واجه النظام مقاطعة من قبل المؤسسة الدينية السنية، وبالتالي كان عليه أن يبحث عن الدعم عند الأكراد، ومن ثم تمَّ اختيار عدد من المشايخ والجماعات لعرض تصورهم عن الإسلام السني الصوفي في سوريا والخارج: الطريقة الكفتارية بزعامة الشيخ أحمد كفتارو، والطريقة الخزنوية بقيادة الشيخ محمد الخزنوي والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي.

وقد ساعد الانخراط في الشؤون السياسية في الشرق الأوسط – خاصة في لبنان – على فتح أفقٍ جديدٍ للتحالف مع الشيعة الإثنى عشرية في لبنان، وبالاعتماد على التحالف السياسي والعسكري الناجح بين سوريا ولبنان وإيران، أُتيح للشيعة الإثنى عشرية فرصة عظيمة للتوسع في سوريا. على صعيد التحالف الديني، يعتمد النظام السوري بشكل أساسي على السفارة الإيرانية والمركز الثقافي الإيراني في دمشق وعلى آية الله فضل الله في لبنان. يُظهِرُ التشديد على الإسلام الصوفي والإسلام الإثنى عشري كيف أن الإسلام الرسمي السوري لم يُلبِّ مطالب الأغلبية السنية من سكان سورية، وهو جعل له مساهمةً قليلة في الشرعية الإسلامية للنظام، وحتى بشار الأسد، والذي يبدو أنه قد شجَّعَ على المزيد من المشاركة في عملية صنع القرار على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية (١٤) التي تعود لل التي تعود للمسة أراضيهم المُين في لبنالى نحو جيد ، فإنه لم ينجح في صياغة سياسة متوائمة مع الشعب تجاه الإسلام، وإذ لم يعمل على المواءمة بين سياسات الإسلام الرسمي مع تدابير العنف القمعي الفعال، فإنه لم يكن من الممكن أن تحصل حالة من الاستقرار السياسي في سوريا.
 
قائمة المراجع
 
  • Abd-Allah, Umar F. (1983) The Islamic Struggle of Syria, Berkeley: MizanPress.
  • Agai, Begim (2001) Neue Organisationsformen islamischen Gemeindelebens:Das Bildungsnetzwerk des tuerkischen Predigers Fethulla Guelen, Paper presented at the Deutscher Orientalistentag in Bamberg, March 2001.
  • Ajami, Fouad (1986) The Vanished Imam: Musa al-Sadr and the Shia of Lebanon, Ithaca, N.Y.: Cornell University Press.
  • Algar, Hamid (1976) “The Naqshbandi Order: A Preliminary Survey of Its History and Significance,” Studia Islamica, 44: 123–52.
  • al-Arif billah al-alama al-Sheikh Izz al-Din al-Khaznawi, n.p.
  • Batatu, Hanna (1981) “Some Observations on the Social Roots of Syria’s Ruling Military Group and the Causes for Its Dominance,” Middle EastJournal, 35 (3): 331–44.
——— (1999) Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables,and Their Politics, Princeton, N.J.: Princeton University Press.
  • Böttcher, Annabelle (1998a) Syrische Religionspolitik unter Asad, Freiburg:Arnold-Bergstraesser Institut.
——— (1998b) “L’élite féminine kurde de la Kaftariyya, une confrérie
Naqshbandi Damascène,” in Martin van Bruinessen and Joyce Blau (eds.),Islam des Kurds, Les Annales de l’autre Islam, No. 5, Paris: Institut National des Langues et Civilisations Orientales.
——— (2002) “Islamic Teaching among Sunni Women in Syria,” in DonnaLee Bowen and Evelyn A. Early (eds.), Everyday Life in the Muslim MiddleEast, rev. edn., Bloomington: Indiana University Press.
  • van Bruinessen, Martin (1998) “Introduction: The Kurds and Islam,” in Martin van Bruinessen and Joyce Blau (eds.), Islam des Kurdes, Les Annales de l’autreIslam, No. 5, Paris: Institut National des Langues et Civilisations Orientales.
  • Cross, Jo-Ann (1999) “The Polemics of ‘Official’ and ‘Unofficial’ Islam: Sufism in Soviet Central Asia,” in Frederick De Jong and Bernd adtke (eds.), Islamic Mysticism Contested: Thirteen Centuries of Controversies and Polemics, Leiden: Brill.
  • van Dam, Nikolaos (1996) The Struggle for Power in Syria, 3rd edn., London and New York: I.B. Tauris.
  • Donohue, John J. (1972–1973) “The New Syrian Constitution and the Religious Opposition,” CEMAM, 1 (1): 81–96.
  • Fadlallah, Muhammad Husayn (2001) Fiqh al-Shari‘a, 2 vols., 5th edn.,Beirut: Dar al-malak.
  • Faksh, Mahmud A. (1984) “The Alawi Community in Syria: A New Dominant Political Force,” Middle Eastern Studies, 20 (2): 133–53.
  • Gaborieau, Marc, Alexandre Popovic, and Thierry Zarcone (eds.) (1990) Naqshbandis, Istanbul: Isis.
  • Geoffroy, Eric (1995) Le Soufisme en Égypte et en Syrie sous les derniers Mamelouks et les premiers Ottomans, Damascus: Institut Français d’Études Arabes de Damas.
  • al-Habash, Muhammad (1996) Al-Sheikh Ahmad Kaftaru wa-manhajuhu fî al-tajdid wa-al-islah, 2nd rev. edn., Damascus: Dar al-Sheikh Amin Kaftaru.
  • Halm, Heinz (1982) Die islamische Gnosis: die extreme Schia und die Alawiten, Zürich: Artemis Verlag.
——— (1988) Die Schia, Darmstadt: Wissenschaftliche uchgesellschaft.
  • Hinnebusch, Raymond A. (1982) “The Islamic Movement in Syria,” in Ali E. Hillal Dessouki (ed.), Islamic Resurgence in the Arab World, New York: Praeger.
  • Human Rights Watch (1996) The Silenced Kurds, Human Rights Watch Reports 8:4 (October), New York: Human Rights Watch, http://hrw.org/reports/1996/Syria.htm.
  • de Jong, Fred (1986) “Les confréries mystique musulmanes au Machreqarabe,” in A. Popovic and Gilles Veinstein (eds.), Les Ordres mystiques dansl’Islam: cheminements et situation actuelle, Paris: Éditions de l’École des Hautes Études en Sciences Sociales.
  • Kaftaru, Ahmad (1990) Min huda al-Qur’an al-karim, Damascus: Dar al-mahabba.
  • Koszinowski, Thomas (1985) “Die Krise der Ba‘th-Herrschaft and die Rolle Asads bei der Sicherung der Macht,” Orient, 4: 549–71.
  • Kramer, Martin (1987a) The Moral Logic of Hizballah, Tel Aviv: Dayan Center for Middle Eastern and African Studies, Shiloah Institute, Tel Aviv University.
——— (1987b) “Syria’s Alawis and Shi‘ism,” in Martin Kramer (ed.), Shi‘ism, Resistance, and Revolution, Boulder, Colo.: Westview Press.
  • Lobmeyer, Günther (1995) Opposition und Widerstand in Syrien, Hamburg: Deutsches Orient-Institut.
  • Loimeier, Roman (1993) Islamische Erneuerung und politischer Wandel in Nordnigeria, Münster and Hamburg: Lit. Verlag.
  • Meho, Ibrahim Lokman (1995) The Kurdish Community in Lebanon, M.A. thesis, Department of Political Studies and Public administration, American University of Beirut.
  • Mervin, Sabrina (2000) Un reformisme chiite. Ulémas et lettrés du Gabal ‘Amil (actuel Liban-Sud) de la fin de l’Empire ottoman à l’indépendance du Liban, Paris: Karthala; Beirut: CERMOC; Damascus: IFEAD.
  • Moosa, Matti (1988) Extremist Shiites: The Ghulat Sects, Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press.
  • Nasr, Hossein (1991) Islamic Spirituality: Manifestation, New York: Crossroad.
  • Nida’ul Islam Magazin (Australia) (1997) September/October, http://www.islam.org.au.
  • Osseyran, Hayat Nabeel (1997) The Shiite Leadership of South Lebanon: A Reconsideration, Master’s thesis, Department of Social and Behavioral Sciences, American University of Beirut.
  • Özdalga, Elizabeth (ed.) (1999) Naqshbandis in Western and Central Asia: Change and Continuity, Istanbul: Swedish Research Institute in Istanbul.
  • Pinto, Paolo (2001) Proof and Experience: The Construction of Religious Identity in the Sufi Zawiyas of Aleppo, Syria, Paper presented at the sixteenth Middle East History and Theory Conference, University of Chicago, May 11–12.
  • Qasim, Muhammad (2001) “Alfayn talib sharai min mukhtalif al-jinsiyat al-arabiyya wa-al-islamiyya wa-al-urubiyya fi sufuf mahad al-sheikh Izz al-Din al-Khaznawi li-al-ulum al-shariyya,” al-Liwa (Beirut), 3 (February 19).
  • Rabinovich, Itamar (1971) Syria under the Ba‘th, 1963–66, New York: Halstead Press.
——— (1979) “Problems of Confessionalism in Syria,” in Gustav Stein and Udo Steinbach (eds.), The Contemporary Middle Eastern Scene, Opladen: Leske and Budrich.
  • Ranstorp, Magnus (1997) Hizballah in Lebanon: The Politics of the Western Hostage Crisis, Houndsmill, Basingstoke: Macmillan; New York: St. Martin’s Press.
  • Reissner, Johannes (1980) Ideologie und Politik der Muslimbrüder Syriens:Von den Wahlen 1947 bis zum Verbot unter Adib ash-Shishakli 1952, Freiburg: Klaus Schwarz Verlag.
  • Rosiny, Stephan (2000) Shia’s Publishing in Lebanon: With Special Reference to Islamic and Islamist Publications, Berlin: Das Arabische Buch.
  • Rougier, Bernard (2001) Mobilisations religieux et reconstructions identitaires dans les camps palestiniens du Liban, manuscript of doctoral thesis to be submitted at the Institut d’Études Politiques, Paris.
  • Sadowski, Yahya (1988) “Ba‘thist Ethics and the Spirit of State Capitalism,”in Peter J. Chelkowski and Robert J. Pranger (eds.), Ideology and Power in the Middle East, Durham: Duke University Press.
  • Schenk, Michael (1984) Soziale Netzwerke und Kommunikation, Tuebingen: J.C.B. Mohr.
  • Seurat, Michel (1989) L’État de barbarie, Paris: Editions du Seuil.
  • al-Surur, Ali Hasan (1992) Al-Alama Fadlallah wa tahaddi al-mamnu‘, Beirut: Dar al-malak.
  • Voss, Gregor (1987) “Alawîya oder Nusairîya?” Schiitische Machtelite und sunnitische Opposition in der Syrischen Arabischen Republik, dissertation, University of Hamburg.
 الهوامش
 
هذه المقالة عبارة عن جزء من مشروع بحثي موسع يتناول الجماعات الإسلامية، وهو ممول من مجلس الأبحاث الألماني (DFG) في بون ومركز دراسات العالم العربي الحديث (CEMAM  (في بيروت. أحب أشكر إريك بوردينكيرتشر وجون دونوي وماريان هولم وبيديرسين ديتريتش يونغ ومارجاريت أوين على ملاحظاتهم وتنقيحاتهم على النُسخ السابقة.
 
 [1] للمزيد من المعلومات حول النقشبندية انظر: (Algar (1976 و Gaborieau et al. (1990) ، و Özdalga (1999).
[2]  يعتَبِرُ العلوية أنفسهم من الشيعة، ويحظى أئمة الشيعة باحترام كبير من قِبَل التعاليم العلوية الخاصة. للمزيد من التفاصيل انظر:  Halm (1982:284–355; 1988: 186–92)  و Moosa (1988).
[3]  Alasdair Drysdale ،" النظام السورية وأزمته" MERIP, 110 (1982) 3 . للمزيد من الفهم لهذا الواقع انظرFaksh (1984)  وRadinovich (1979).
[4]  لرصد المزيد من هذه الجدالات انظر: Voss (1987).
[5]  يسعى الإسلام السلفي إلى إعادة إحياء إسلام السلف الصالح على مختلف الصُعُد الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، السلف الصالح، خاصة النبي محمد وأتباعه. يستوحي الإسلام الصوفي تأويله من العالم الحنبلي أحمد ابن تيمية (1263-1328). برزت في الحجاز صورة متطرفة عن الإسلام السلفي، وذلك على يد محمد ابن عبد الوهاب (1703-1791) بالتحالف مع المشروع السياسي لآل سعود. يُعرف هذا الاتجاه من الإسلام السلفي بالسلفية الوهابية.
[6]  لنيجيريا انظر: (Loimeier (1993؛ ولوسط آسيا انظر: (Cross (1999؛ ولتركيا انظر: (Agai (2001.
[7]  يعتمد هذا القسم بشكل أساسي على بحثي السابق، انظر: Böttcher ((a1998.
[8]  ينتمي المسلمون السنة الأكراد عادة إلى المذهب الفقهي الشافعي.
 [9] تقع هذه المؤسسة الصغيرة في غرب بيروت قرب الجامعة اللبنانية. تأسس عن طريق المركز الإسلامي للتربية عام ١٩٧٦ لـ "تلبية حاجة وجود جامعة في العالم العربي الإسلامي تهتم بالإسلام وتطبيقها في مختلف مناحي الحياة." وللمفاجئة، تتلمذ رئيس المؤسسة في بيروت على يد أكثر زعماء الصوفية والوهابية المتطرفين في لبنان، بما فيهم بعض المشياخ الفلسطينية المرتبطين بجماع عصبة الأنصار (Rougier, 2001). انظر أيضاً الفصل السادس من هذا الكتاب.
[10]  انظر: http://www.collegeofmaqasid.org/summerprogram.
[11]  أحد تلامذته هو الشيخ النقشبندي الفلسطيني البارز إبراهيم غنيم، والذي يحظى بقاعدة عريضة من المتابعين في المخيمات الفلسطينية في لبنان.
[12]  في حزيران ٢٠٠١، وفي مقابلة مع التلفزيون الفرنسي، زل لسانه بفظ الصيغة الشيعية "صلى الله عليه وآله" والتي تُستعمل من قِبَل الشيعة المتمرسين عندما يُذكر اسم النبي محمد.
[13]  AMAL تعني الأمل بالعربية، وهي اختصار لأفواج المقاومة اللبنانية. في البداية كان الاسم يُطلق على الذراع العسكري لحركة المحرومين التي أسسها الإمام موسى الصدر عام ١٩٧٤ للتعبير عن هموم الشيعة في لبنان.
[14]  خُطبة الجمعة، ٢٦ يناير2001، بيروت، انظر: http://www.bayynat.org.
[15]  من حوار غير رسمي مع سيد شريف سيد العاملي في جنوب بيروت، حزيران ١٩٩٩.
 
مصدر الدراسة:

  الفصل الخامس من كتاب:
The Middle East and Palestine: Global Politics and Regional Conflict
 Edited by: Dietrch Jung
2004

ترجمة: حمزة ياسين
طالب ماجستير في قسم علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، كاتب وباحث مهتم في قضايا الفكر والدين والمجتمع والسياسة، له مقالات وأوراق منشورة في صحف ومجلات الكترونية.

 
SaveSaveSaveSave
أنابيله بوتشر

باحثة وأكاديمية ألمانية أعدتها رسالتها للدكتوراه حول الإسلام الرسمي في سوريا ، من خلال دراسة ميدانية أعدتها الباحثة في مدينة دمشق بين عامي 1993 إلى 1997م، كما أن لها عدد من الدراسات والكتب حول التصوف، وكتاب آخر حول سوريا بعنوان ( الإسلام السياسي في سوريا من عام 1961-1996م).

ذات صلة