سوريا العرب والكرد بين مطرقة تركيا-أردوغان وسندان أمريكا-ترمب: محاولةٌ للفهم

18 تشرين1/أكتوير 2019
 
مقدمة

بكل المقاييس، تبدو عملية التدخل الأمريكي في شمال سوريا من أكثر العمليات تعقيداً فيما يتعلق بتفكيك عناصرها السياسية والعسكرية والأمنية، المُعلنة والسرية، بغرض الاستفادة منها للعمل على تحليل سياسي موضوعي ومنهجي.
 
ومن ناحيةٍ أخرى، يبدو أن هذه العملية بالذات تمتلك خلفيةً ثقلية (heavy package) أيديولوجية وشخصية لدى الغالبية العظمى ممن يحاولون التحليل. الأمر الذي يجعل تحليلاتهم بعيدةً عن الموضوعية إلى درجات متفاوتة.
 
والآن، بعد وصولنا لحالٍ تبيّنَت فيه كثيرٌ من الحقائق المعطيات التي تساعد على القيام بحدٍ أدنى من التحلي الموضوعي. قد يكون المجال مناسباً للمساهمة في مثل هذا التحليل.
 
من هنا، تأتي هذه المشاركة (الاجتهادية) التي يمكن جداً أن يضظهرَ خطؤها الجزئي أو الكامل مع تكامل المعطيات والحقائق خلال الفترة القادمة.
 
وأستميح القارئ عذاراً في عرض التحليل على شكل نقاط محددة، وذلك على سبيل التركيز على كل عاملٍ من العوامل قدر الإمكان.
 
١. بكل بساطةٍ وعفوية، وبعيداً عن الحسابات المعقّدة، وفي تعبيرٍ أكثر صدقاً عن الشخصية الأمريكية، قرر الرئيس الأمريكي أن تدخل أمريكا-ترمب مباشرةً في موضوع التدخل التركي شمال سوريا فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، فتوقفَ كلُّ شيءٍ آخر. دخلت أمريكا. ذهب بنس وبومبيو إلى أنقرة واتفقوا مع تركيا-أردوغان باسم ترمب، فصمتَ كل رأي سياسي معارض في العالم، عملياً.، وإن استمرت الثرثرات الغاضبة هنا وهناك.. خَرِسَت أوروربا، المَخصيَّة أصلاً، كما ذكرنا سابقاً. كان أكثر مااستطاعته روسيا وإيران هو إصدار بيان مشترك لوزيري الخارجية بأن روسيا وإيران مستعدتان (ياسيدي..) لتسهيل الحوار بين تركيا والنظام السوري، وبين تركيا وقادة الأكراد! رحَّب الأمين العام للأمم المتحدة بالاتفاق وعرضَ جهودهُ لتسهيل تنفيذه!..
 
هكذا هي أمريكا مع العالم، وهكذا حالُ العالم مع أمريكا. فيها يصدرُ القرار الذي يرسم طبيعة العلاقة بين الطرفين، ومنها يجري تنفيذ القرار عملياً، وماعلى العالم إلا أن يتفرج، وفي أحسن الأحوال، يلهثَ باحثاً عن طريقة للتعامل مع القرار. قد يغضب البعض خارج أمريكا من هذا الواقع، وقد يفرح آخرون به، لكن هذا يبقى مجرد ضجيجٍ صغيرٍ هامشيٍ لايؤثر على القرار، ولا على طبيعته، ولا في كيفية تنفيذه.

فالاقتصاد الأمريكي عابرٌ للقارات. والسياسة الأمريكية عابرةٌ للقارات. وحاملات الطائرات الأمريكية تمخر محيطات العالم شرقاً وغرباً وهي تحمل اقتصاد أمريكا وسياستها جنباً إلى جنب مع القاذفات والصواريخ. والثقافة الأمريكية عابرةٌ للقارات. تحملها الأفلام والبرامج الإعلامية الأمريكية التي تخترق كل حدود الجغرافيا، وتتجاوز كل المسافات، وتقفز فوق كل خطوط الرقابة الحمراء المعلنة وغير المعلنة في زوايا العالم الأربعة. حاملةً معها طرق التفكير والحياة الأمريكية، والموضة والأزياء الأمريكية، وعادات التسوق الأمريكية، والطعام الأمريكي، وحتى (الشتائم) بالطريقة والألفاظ الأمريكية! هذا واقع. بغض النظر عن قبوله إو رفضه. والذين لايعترفون به أولاً لن يعرفوا كيف يتعاملون مع الواقع المذكور لما فيه مصلحة شعوبهم ودولهم وثقافتهم وهويتهم...

 
٢. صدقَ ترمب، وهو كاذب، كما يقولون في العربية، عندما قال أن الأكراد ليسوا ملائكةً، وأنهم جميعاً ليسوا شيئاً واحداً (كما هو حال السوريين والعرب والمسيحيين والمسلمين وكل القوميات والشعوب). وأن حزب العمال الكردستاني PKK (الأب الروحي والعملي المباشر لوحدات حماية الشعب التي كانت تُسيطر على الشمال السوري شرق الفرات PYD) إرهابي، وربما يكون أكثرَ إرهاباً من داعش. وقالَ، بترجمة الزميل محمد غانم: "علينا أن نعترف، رغم أن الكثيرين منا لايحبون أن يعترفوا. لقد صؤَّرنا الأكراد وكأنهم ملائكة... لقد دفعنا لهم مال قارون حتى قاتلو معنا.. لكننا نحن الذين أسَرنا مقاتلي داعش.. وقد فتح بعض الناس [من القوات الكردية] لهم بعض الأبواب ليسمحوا لهم بالفرار [الآن] ويُظهرونا بأسوء مظهر ممكن". والاحتمال كبير في عالم السياسة المعاصر أن هذا (دفعَ الأموال) حصلَ.
 
والكل يعرف أن الوحدات ومعها الغطاء العربي الزائف (قسد) لم تحارب تنظيم الدولة لأنها قوىً ملائكية تريد فقط إنقاذ العالم من الإرهاب. يجدر هنا، أيضاً، أن نُعرِّف السوريين تحديداً بما قاله ترمب، بترجمة الصديق محمد غانم، مرة أخرى : "رغم أن أرواح قرابة ٥٠٠ ألف إنسان أُزهقت في سوريا، حين كان باراك أوباما رئيساً يقود [الجهود] لتسوية سياسية لتلك الحرب الأهلية. إلا أن الإعلام [الأمريكي] قد غضبَ في الساعات الـ ٧٢ الأخيرة حيال سياستنا في سوريا أكثر مما غضبَ طيلة سبع سنين من المذابح"!!!!
 
٣. ليس دفاعاً عن تركيا-أردوغان، ونقدي لها مكتوب وموثق. ولكن، ظهرت إلى السطح أخيراً بعض الحقائق الهامة جداً، والتي كان لايتجاهلها الساسة والإعلاميون الأمريكان فقط، وإنما أيضاً كثير من النُشطاء والمثقفين السوريين الذين كانوا حاسمين قاطعين جازمين (غاضبين في كثيرٍ من الأحيان).. في رفضهم للتدخل التركي، بغض النظر عن كل عاملٍ آخر. ومنها الحقائق التي ذكرها ترمب أعلاه.
لايكفي هنا أن يُحيلَنا بعضهم، منهجياً وموضوعياً، أن يحيلونا إلى رفضهم في الماضي لممارسات وحدات حماية الشعب ومسؤولي مايُسمى (الإدارة الذاتية)، ليكون هذا مبرراً لإصرارهم وحُكمهم وتحليلهم الذي يفرضونه علينا الآن على أن التدخل التركي سيكون شراً وبلوى على الثورة السورية وشعبها بشكلٍ قاطعٍ مانع. بل وأن يُخوِّنوا كل المقاتلين السورين الذي شاركوا في العملية بتعميمٍ كامل ودون أي تمييز أو تقدير للموقف (المستحيل) الذي كان ولايزال يعيشه كثيرٌ من الشرفاء في (الجيش الوطني).
 
٤. هذه المرة، كانت العملية التركية، سياسياً، ضربة مُعلّم. أحسب أن أردوغان ومستشاريه درسوا شخصية ترمب جيداً، وعرفوا كيف يتعاملون معه ويصلوا إلى مايريدون تحقيقه. والمعلقون الآن في أمريكا يؤكدون، بما هو شبه الإجماع، إلى أن ماحصلَ هو نصرٌ كبيرٌ لتركيا-أردوغان، وهو، عملياً، من أكبر الإهانات والهزائم التي عرفَتها أمريكا في تاريخها المعاصر. وأنها الآن ستقوم بما تريده تركيا-أردوغان بنفسها، بدلاً من أن يصل إليه الجيش التركي عسكرياً. ويكاد المرء لايصدقُ مايرد في الإعلام الأمريكي في هذا المجال.
 

٥. السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، والذي بررَ لترمب كل ممارساته المجنونة خلال السنوات الثلاثة الماضية وكان من أقوى الأصوات المدافعة عنه، ومعه مجموعة من أعضاء الكونغرس (ديمقراطيين وجمهوريين) يتابعون، مع غالبية الكونغرس، تصريحاتهم النارية (المهووسة أيديولوجيا) ليس فقط ضد تركيا-أردوغان، بل وضد ترمب، ويتابعون العمل على إصدار لائحة عقوبات ضد تركيا-أردوغان.
 
لكن الاحتمال كبير بأن يتمخض هذا الأمر كلهُ فيُصبح (فأراً). فالعقوبات التي يتحدثون عنها تتمثل في منع شخصيات تركية من دخول أمريكا، وبعض العقوبات المالية وعدم السماح للمواطنين الأمريكان بشراء سندات الحكومة التركية.. هذا في حين قال ترمب أن اتفاق وقف إطلاق النار ألغى أي سببٍ لفرض عقوبات على تركيا. والأرجح أن يضغط مع إدارته على الأعضاء الجمهوريين الذين صاروا بمثابة (تابعين صغار) له، وألا يصوت كثيرون لقرار العقوبات، بحيث لايصبح ممكناً للكونغرس كسر الفيتو الرئاسي المؤكد عليه. وهذا كله يدخل فيما نتكلم عنه من (الأزمة السياسية) الراهنة في أمريكا على جميع المستويات، وبشكلٍ غير مسبوق في التاريخ المعاصر.
 
المفارقة هنا أن الجزء الأكبر مما يطرحه غراهام والكونغرس، وكل المحللين والخبراء (العظماء)، كتبريرٍ لموقفهم يتمثل في أن أمريكا "نقضت عهداتها مع الأكراد وخذَلَتهم)، وأن هذا سيتسبب في عدم ثقة حلفاء أمريكا في المستقبل بها وبوعودها. يتناسى هؤلاد أن التاريخ الأمريكي يذخر بما لايكادُ يُحصى من هذه الأمثلة في التعامل مع الحلفاء بمثل تلك الطريقة على امتداد تاريخها الثديم والمعاصر. والمفارقة الأكبر تتمثل في موقف أمريكا من الأكراد (والعرب) بعد عاصفة الصحراء حين شجعوهم على الثورة ضد نظام صدام، ثم لما صدَّقهم هؤلاء وانتفضوا، تركهم الأمريكان لمصيرهم المشؤؤم من المذابح، وصولاً ري قصف المناطق الكردية في الشمال بالسلاح الكيماوي. وهذا مالم أسمع معلقاً أمريكياً، ولاسورياً يتحدث عنه!.
 
٦. تبقى أمريكا، حتى في أزماتها، مصدراً لأسئلةٍ لا يبدو أن أحداً في بلاد العرب يهتم بالبحث لها عن إجابات. وافتقاد الإجابات للأسئلة التي يقذفها في وجهنا، كعرب، الواقعُ الأمريكي، يعني بقاءنا معلَّقينَ في سديمٍ من الفوضى والحيرة والتشويش. ببساطة، لأن ثمة حبلاً سرياً يربط حاضرنا بحاضر أمريكا، ومستقبلنا بما ستؤول إليه الأوضاع فيها.
 
قد لا يكون (مريحاً)، لكثيرين، الحديثُ بصراحة في الحقيقة المذكورة أعلاه. لكن هذا لا يلغي كونَها تحدياً لن نملك سوى مواجهته، نهاية المطاف. كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ من البترول إلى الإسلام ومن الموقع الاستراتيجي إلى إسرائيل، تتعدد العوامل ويبدو هذا قدَراً لامهربَ منه. لكن الحال، إياه، يكشف، في الآن نفسه، الجانب الآخر من الصورة: إن أمريكا نفسها مهووسةٌ بنا.
 
هناك من يقول بعكس ذلك كلياً من العرب، كتاباً ومثقفين وأكاديميين. بل إن هؤلاء يعتبرون أي حديثٍ عن اهتمام أمريكا بالعرب وعالمهم محضَ أوهام. أو أنه تشاوفٌ وادعاءٌ، ومحاولةٌ يائسة تحاول إعطاء العرب قيمةً ودوراً مُصطنعاً في عالمٍ مفعم بصراعات البحث عن أدوارٍ وقيمة وتحقيقِ مصالحَ وتطلُّعات.

ما يفوتُ هؤلاء أن حديثنا عن هوس أمريكا بالعرب لاينبع من الاعتقاد بأنها معجبةٌ بإنجازاتنا العلمية والصناعية.. أو أنها مبهورةٌ بمستوى تنظيماتنا الإدارية والاقتصادية والثقافية.. أو أنها، ببساطة، واقعةٌ في حبنا، لوجه الله، أو كما يقولون، لزرقة عيون بعضنا والسُمرة الجذابة لجبهات وزنود بعضنا الآخر!
 
وإنما يصدر حديثنا عن الدلالات الاستراتيجية للعوامل المذكورة أعلاه، وقيمتِها في حسابات ومعادلات الصراعات الجارية. هذا فضلاً عن إدراكها، أمريكا، لـ (الكمون) الموجود في مجتمعاتنا وثقافتنا، إن لجهة قدرتنا، يوماً ما، على استخراج ماهو إيجابيٌ فيها، أو لجهة قدرة ماهو سلبيٌ فيها على إشاعة فوضى في العالم، ليس لها مثيل.

ما يفوت الناقدين لنظرية اهتمام أمريكا الكبير بـ (الشأن العربي) أيضاً أن (الزهد) الظاهري في الإعلام الأمريكي، وحتى في تصريحات الساسة الأمريكان المتعلقة بالشؤون الداخلية والخارجية، بذلك الشأن لايعكس على الإطلاق حجم الاهتمام الحقيقي للمؤسسة السياسة / الاقتصادية / العسكرية الأمريكية به. على العكس من ذلك، يَظهر من تجارب السياسة الخارجية لأمريكا، في القرن الماضي على الأقل، أن درجة الاهتمام الحقيقي بمسائل حساسة ومفصلية تتعلق بتلك السياسة تتناسب عكساً مع الحديث العلني عنها. في حين أنها تُفرَز لتوضع تحت غطاء الدبلوماسية السرية بديناميكيتها ووسائلها الخاصة، وإلى مايُسمى في حقل العمل السياسي الخارجي بالمسارات الجانبية غير المعلنة، وتُسمى Track two في الأوساط السياسية.
 
 
٧. الكلام السابق ينطبق على السوريين أكثر من غيرهم. وهم الآن مسؤولون عن المستقبل القادم لما سيُصبح (المنطقة الآمنة). ومهما كان البعض يعتقد أن القرار الأخير سيكون لتركيا-أردوغان، وهذا صحيح، إلا أن ارتفاع قادة المعارضة السياسية والعسكرية السورية إلى مستوى تلك المسؤولية، وقيامهم بتقديم (مبادرات) سياسية مدروسة ومحترفة سيلعب دوراً في ذلك القرار التركي.
 
٨. ما من أحدٍ يُشعر بالحزن والأسى عليه أكثر من الشعب الكردي. سكون الكلام مُعاداً. ولكن الشعب الكردي يدفع، مرة رابعةً وخامسة، الطموحات الشخصية المجنونة لقيادات مجنونة لانتلك حداً أدنى من الأخلاقسة، ولا من الشعور بالمسؤولية تجاه الشرائح الأكبر من شعبه. وقد تكون هذه أكبر مأساةٍ تصيب الأكراد بنتائجها القادمة في العصر الحديث. فمتى يفهمون هذه الحقيقة، وتصرفون بناءً عليه؟
 
٩. لا يبدو ثمة رجلٌ في العالم المعاصر يمكن أن تتمثل فيه مقولة هيغل عن مكر التاريخ كما هو الحال مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
 
في تلخيص سريعٍ لرأي الفيلسوف الألماني، يتحدث الرجل عما يسميه "خبث العقل الكلي المسيطر على التاريخ". في آلية هذا "الخبث"، يستعين التاريخ بالشخصيات التاريخية في سبيل تحقيق أهدافه وخططه ومقاصده، دون أن يكون هؤلاء على علم بذلك، وإنما الذي يجعل هؤلاء أقوياء هو أن أهدافهم الجزئية ومصالحهم الخاصة تحتوي على المحتوى الجوهري الذي يسميه "إرادة الروح الكلية". والواضح أن هذا يمتُّ بِصلةٍ إلى ما نسميه في ثقافتنا الأقدار، وكيف تسوق الأحداث نحو خيرٍ يريده الخالق للبشرية في نهاية المطاف.. هل يكون تحليل (هيغل) صحيحاً في هذه الحالة. هذا سؤال سيكون التاريخ مسرح إجابته الدقيقة.
د. وائل مرزا

رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.