Print this page

المقاتلون الأجانب في الشرق الأوسط: جدل الاستقطاب والتوظيف

19 كانون2/يناير 2018
 
[هذه هي المادة الأولى من ملف ينشره موقع "العالم" حول موضوع المقاتلين الأجانب في الشرق الأوسط على مدار الأسابيع القادمة].
مقدمة
 
رغم الإعلان عن هزيمة تنظيم "الدولة الإسلاميّة" وطرده من معاقله الحضرية المَدينيّة في العراق وسوريا، إلّا أنّه لا يزال الخوف من هجمات التنظيم الخارجية يحتل المرتبة الأولى في قائمة المخاوف العالمية حسب مسح قام به مركز "بيو" في 1 آب/ أغسطس 2017.

وقد شغلت مسألة المقاتلين الأجانب السُّنة (الجهاديون) الحكومات الغربية والعربية والعالمية منذ اندلاع الحراكات الاحتجاجية الشعبية السلمية في سورية منتصف آذار/ مارس 2011 ثم تحولها إلى نزاع عسكريّ عنيف بعد عدة شهور، وتنامي تدفق المقاتلين المتطوعين الأجانب من الجهاديين. وخلال فترة وجيزة، تحولت جبهة سوريا إلى  أكبر ساحة لجذب للمقاتلين الأجانب في التاريخ المعاصر. ونظراً لخطورة الظاهرة وانعكاساتها على الأمن الإقليميّ والدوليّ، فقد انشغلت المؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة وأجهزة الاستخبارات العالمية ومراكز الأبحاث الرسميّة والأهليّة، بتتبع موضوعة المقاتلين الأجانب، ومحاولة فهم أسرار جاذبية تنظيم الدولة، وخصائص الجبهة الشاميّة، ومعرفة الظاهرة على صعيد الأرقام والإحصاءات، والتعرف على جنسيات المقاتلين، وتوجهاتهم الأيديولوجيّة والفكريّة، وملاحقتهم وتتبع مصيرهم، وآليات التعامل معهم من خلال البرامج التقليدية العسكرية والأمنية، وكيفية التعاطي مع العائدين من خلال مقاربات العدالة الجنائيّة وبرامج إعادة التوجيه والدمج.
 
تضارب الأرقام والإحصاءات
 
ثمة اختلافات كبيرة حول أعداد المقاتلين الأجانب ممّن ذهب للقتال في سوريا، وأعداد القتلى والعائدين إلى بلداتهم أو الفارين إلى ساحات وبلدان أخرى. إلّا أن هناك شبه إجماع على أن جبهة سوريا تتفوق على كافة الجبهات التي تشكلت كساحات لاجتذاب المقاتلين الأجانب سابقاً كأفغانستان أو البوسنة أو العراق؛ إذ يفوق عدد الأفراد  من العالمين العربي والإسلامي، ومن أوروبا الذين يتم حشدهم عن عدد الأشخاص الذين حُشدوا خلال جميع الصراعات الأجنبية الأخرى التي نشبت على مدى السنوات العشرين الماضية مجتمعة. ويختلف المقاتلون الأجانب عن المرتزقة، الذين يقاتلون في الخارج نيابة عن حكومات أو هيئات ممولة تمويلاً خاصّاً، وهم وفقاً لتعريف ديفيد ماليت "ليسوا من مواطني دول الصراع وينضمون إلى التمرد أثناء الصراعات الأهليّة"[1]. ولذلك، لا تدخل المليشيات الشيعيّة على اختلاف جنسياتها -التي يقودها الحرس الثوري الإيرانيّ- وحزب الله اللبنانيّ، في إطار مسمى "المقاتلين الأجانب". وتختلف التقديرات كذلك في تقدير أعدادها، ويفوق حجم مشاركتها في بعض التقارير عدد المقاتلين الأجانب السّنة[2].

مع تنامي الحركات الجهادية في سوريا بداية 2012 وصعود "جبهة النصرة" 2013  وبروز تنظيم "الدولة الإسلاميّة" في العراق وسوريا  2014،  تكاثرت التقارير والدراسات الصادرة عن مؤسسات رسميّة موثوقة ومراكز بحثية مرموقة حول المقاتلين الأجانب. وعلى الرغم من الاختلافات المتعلقة بتقدير أعداد المقاتلين في صفوف الجماعات الجهادية وجنسياتهم، إلا أن الأرقام متقاربة نسبياً على صعيد العدد الكليّ، مع تضارب شديد في حجم مشاركة الدول. وكانت التقديرات تتغير مع مرور السنوات؛ نظراً لاستمرار عمليات التطويع والاستقطاب، لكنها اكتملت بحلول عام 2018، وقد بلغ عدد المقاتلين الأجانب حسب التقارير البحثية والاستخبارية الأكثر موثوقيّة قرابة 40 ألف مقاتل أجنبيّ.

فبحسب تقرير مركز "مجموعة صوفان" الاستشاري للشؤون الأمنية الذي صدر في تشرين ثاني/ أكتوبر 2017، فإنّ عددهم أكثر من 40 ألف أجنبيّ من 110 دولة، وقد بلغ عدد العائدين إلى بلدانهم ما لا يقل عن 5600 عنصر[3]. وهي أرقام تتطابق مع التقديرات الأمريكية الصادرة في يوليو/ تموز 2017. فبحسب نيكولاس راسموسن مدير المركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب، فإن أجهزة المخابرات الأمريكية قدرت أن نحو 40 ألف أجنبي انضموا للدولة الإسلامية في سوريا والعراق[4]. وكانت "مجموعة صوفان" قد أصدرت ورقتين سابقتين الأولى بعنوان: "المقاتلون الأجانب في سوريا" في حزيران/يونيو 2014، وقدرت عدد المقاتلين الأجانب بـ 12000 من 81 بلداً، والثانية بعنوان: "المقاتلون الأجانب -تقييم حديث لتدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق" في كانون أول/ ديسمبر 2015، وقدرت العدد بـ 27000 مقاتل أجنبي من 86 دولة على الأقل[5].
 
وكانت تقديرات الحكومة الأمريكية قد أشارت في 2014 إلى أن العدد يتراوح بين 20000 و31500، وأشارت التقديرات الروسية إلى وجود أكثر من ضعف هذا العدد. وفي مطلع عام  2016، ذكر مدير المخابرات الوطنية جيمس كلابر  للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قائلاً: "لقد سافر ما لا يقل عن 38200 مقاتل أجنبي، منهم 6900 على الأقل من الدول الغربية إلى سوريا من 120 دولة  منذ اندلاع النزاع في عام 2012”[6].

تدعم الوثائق التي نشرتها صحيفة "زمان الوصل" السورية المعارضة في 8 آذار/ مارس 2016 التقديرات السابقة؛ فالوثائق المكونة من 1736 صفحة، والتي قالت إنها حصلت عليها من أحد المنشقين عن "داعش"، تتضمن كل وثيقة "بيانات مجاهد"، وهي صادرة عن هيئة "الإدارة العامة للحدود"[7]  التابعة لتنظيم الدولة والتي يتولى مسؤوليتها أبو محمد الشمالي واسمه الحقيقي طراد الجربا. وقد عرضت الولايات المتحدة مكافأة مالية قدرها خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد على تحديد مكانه. تسربت الوثائق إلى جهات عديدة قامت بدراستها، ومنها "مركز مكافحة الإرهاب" الأمريكي الذي رجح صحتها، وأكد على أن ترويس النماذج المعالجة بوضع عبارة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" إشارة للإطار الزمني الذي تم فيه إنتاج تلك الوثائق، التي كانت عموماً ما بين أوائل عام 2013 وأواخر عام 2014، وتمتد تلك الفترة الزمنية منذ إعلان الخلافة في حزيران 2014. فمن الواضح أنه لم يتم تنقيح القالب بعد تغيير الاسم في حزيران 2014 ليصبح الدولة الإسلامية، وتوفر الوثائق معلومات عن حوالي 31% تقريباً من أولئك الذين دخلوا منطقة النزاع في هذا الوقت[8].

تطور عمليات الجذب والاستقطاب في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" والجماعات الجهادية  المختلفة في العراق وسوريا تيرز عبر المقارنة مع أبرز عمليتين لتطويع المقاتلين الأجانب حصلتا في السابق منذ أن تحول هذا الأمر إلى ظاهرة في ثمانينيات القرن الماضي؛ إذ تتخطى أعداد المقاتلين المجندين تلك المستويات إلى حدٍّ كبير، مع الإشارة إلى أن عمليات التجنيد الأخيرة حدثت خلال فترة زمنية أقصر بكثير. فبين عامي 1979-1992، يُعتقد أن حوالي 5000 شخص قد غادروا إلى جبهة أفغانستان للجهاد ضد السوفييت. وخلال العقد الماضي في الفترة بين 2003-2007، ذهب حوالي 4000 شخص من الأجانب إلى جبهة العراق  للجهاد ضد الاحتلال الأمريكي[9].

لقد كانت عملية تطويع المقاتلين الأجانب في سورية وتطورها خلال فترة وجيزة لتصبح أكبر ساحة لاستقطاب الجهاديين العرب والأجانب لافتةً، كما يشير التقرير الثالث للأمم المتحدة في شباط/ فبراير 2016 إلى أن قرابة 30 ألف "مقاتل أجنبي" ينتشرون في العراق وسوريا[10]. لكن التحول اللافت الأكبر تمثل بمشاركة المرأة في الهجرة وتبدل أدوارها الجهادية التاريخية. فبحسب جون بول لابورد، رئيس المديرية التنفيذية للجنة الأمم المتحدة لمحاربة الإرهاب، فإنّ "القضية الأولى التي أذهلت المحللين في فريقي هي أن 550 امرأة أوروبية سافرن إلى مناطق خاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية. وفي بعض الدول تمثل النساء ما بين عشرين وثلاثين في المئة من المقاتلين الإرهابيين الأجانب، كما أن عدد الفتيات الصغيرات اللاتي أقسمن بالولاء لتنظيم الدولة على الإنترنت قد ازدادَ أيضاً"[11].

يعود التضارب في تقديرات أعداد المقاتلين الأجانب في سوريا لأسباب عديدة؛ ومن أهمّها مبالغة بعض الدول في حجم الظاهرة لاستثمارها سياسياً في التخويف من خطر "الإرهاب". فقد عمدت روسيا إلى إصدار تقديرات مبالغة لتبرير تدخلها والاحتفاء بإنجازاتها. فأعلن رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف في 27 كانون أول/ ديسمبر 2017، أنه تم خلال العامين الأخيرين القضاء على نحو 60 ألفاً من مسلحي "داعش" بسوريا، بينهم أكثر من 2800 من المنحدرين من روسيا. وقال غيراسيموف إنّ عدد قوات "داعش" في سوريا في 30 أيلول/ سبتمبر عام 2015 بلغ نحو 59 ألفاً، وإن وحدات التنظيم تمكنت خلال العامين من تجنيد حوالي 10 آلاف[12]. ولا تقتصر المبالغة على الروس؛ فقد كشف قائد العمليات الخاصة في وزارة الدفاع الأمريكيّة الجنرال ريموند توماس في 15 شباط/ فبراير 2017 أن التحالف الدولي لمحاربة "داعش" قتل أكثر من 60 ألف عنصر من التنظيم الإرهابيّ، دون أن يحدد عدد المقاتلين وجنسياتهم[13].

لعلّ أكثر المبالغات في تقدير أعداد المقاتلين الأجانب في سوريا هي تلك الصادرة عن النظام السوريّ وحلفائه، وذلك في سياق التهويل والترهيب من ظاهرة "الإرهاب" العابر للحدود، ولحشد التأييد لسياساته القمعية وتبرير الأعمال الوحشيّة. فقد زعمت دراسة أعدها الدكتور جميل شاهين، وهو موال للنظام السوريّ، لمركز دراسات "فيريل" في ألمانيا، أنّ مجموع المقاتلين الأجانب من 93 جنسية عالمية ضد الجيش السوري، منذ نيسان/ أبريل 2011 حتى كانون أول/ ديسمبر 2015 أكثر من 360 ألف مقاتل أجنبيّ بالتناوب من الرجال والنساء، قتل منهم 95 ألفاً[14].

ظاهرة التضارب في تقدير أعداد المقاتلين الأجانب هي الأبرز في الحالة العربية؛ إذ تعمد معظم الأنظمة على تقديم أرقام متناقضة، حيث تلجأ إلى التهويل والمبالغة حيناً لاستجلاب الدعم والتعاطف الدولي والحصول على التمويلات في مجال مكافحة الإرهاب. وفي  الوقت ذاته، تقدم أرقاماً مغايرة أحياناً للتقليل من حجم الظاهرة وطمأنة الجمهور. وتعتبر الحالة التونسية مثالية في هذا السياق. فقد  بلغ عدد التوانسة الموجودين ضمن صفوف التنظيمات المسلحة 2962 عاد منهم 800 وفق تقرير مجموعة صوفان الأخير، بينما كانت تقديراتها السابقة تقدر بـ 6500. وثمة تضارب شديد في حقيقة الأرقام في الحالة الأردنيّة وعدد من ذهب إلى للقتال إلى جانب التنظيمات الجهادية. فحسب تقرير صادر عن مركز أبحاث الكونجرس الأمريكيّ، يوجد 4000 آلاف أردني، وحسب مجموعة صوفان حوالي 3244 أردنيّ، بينما تتحدث التقييمات المحلية شبه الرسمية عن 900 فقط، وبعضها  يشير إلى حدود 300 فقط[15].

عملية الخلط والتضارب في مسألة المقاتلين الأجانب في سوريا لا تقتصر على موضوعة الأرقام والتقديرات؛ فمنذ بروز تنظيم "الدولة الإسلامية" عمدت مختلف الجهات الرسميّة على التعامل مع كافة المقاتلين الأجانب باعتبارهم من أعضاء "داعش". بينما انقسم هؤلاء المقاتلون: حيث انحاز بعضهم عقب الخلاف بين تنظيم الدولة والنصرة إلى أحد الطرفين، واختار البعض الآخر المحافظة على استقلاليته والبقاء في جماعات وحركات خاصة بهم.  ومن أبرز الفصائل الجهادية التي شكلها المقاتلين العرب والأجانب: جيش المجاهدين والأنصار، وهي مجموعة تشكلت في مارس/آذار 2013 من وحدات جهادية عديدة، وتضم المئات من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من شمال القوقاز. وفي كانون ثاني/ يناير 2014 أعلن عن تأسيس "تحالف المهاجرين والأنصار" الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر. ومن أبرز المجموعات الكتيبة الخضراء، وصقور العز، وشام الإسلام، ولواء الأمة. وتُعتبر "جبهة أنصار الدين" التي أعلن عن تأسيسها في 25 تموز/ يوليو 2014 من أكبر الفصائل الجهادية للمقاتلين العرب والجانب وتتكون من ائتلاف يضم أربعة فصائل وهي: حركة شام الإسلام، وجيش المهاجرين والأنصار، وحركة فجر الشام الإسلامية، والكتيبة الخضراء

إذا كان التضارب حول أعداد المقاتلين الأجانب واقعاً، فقد تنامت الشكوك حول مصداقيتها بعد الإعلان عن نهاية العمليات الأساسية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. فقد جاء في تغريدة منشورة على حساب التحالف الدولي على "تويتر" في 5 كانون أول/ ديسمبر 2017 أنّه وفق التقديرات الراهنة، فإن أقل من 3 آلاف عنصر من داعش حالياً في العراق وسوريا[16]. بينما تقول روسيا إنهم قرابة 10 آلاف، وتنسجم هذه الأرقام مع ما قاله نيكولاس راسموسن مدير المركز الوطني الأمريكيّ لمكافحة الإرهاب بأنّ "كثيراً من، إن لم يكن معظم، المقاتلين الأجانب الذين وصلوا إلى منطقة الصراع سينتهي بهم المطاف بأن يبقوا ويقاتلوا وربما يموتون للحفاظ على دولة الخلافة"[17]. وهو ما يتناقض مع تقديرات سابقة بأن الكثير من المقاتلين الأجانب سيعودون إلى ديارهم ليمثلوا تهديداً أمنياً كبيراً.
 
تتناقض ادعاءات التحالف بإعداد مقاتلي تنظيم الدولة مع تصريحات أوروبية عديدة.  فبحسب وزير الخارجية  الفرنسي جان إيف لو دريان، في  8 كانون أول/ ديسمبر 2017، فإن "نحو 500 شخص فرنسي لا يزالون في ساحة القتال بالعراق وسوريا ويصعب عليهم العودة لفرنسا. ولكن هذا يترك حوالي 500 آخرين لا يعرف مصيرهم أو مكان تواجدهم وكثير منهم لديهم مهارات قتالية"[18]. وقد دفعت هذه التناقضات إلى التشكيك في مجمل التقارير الأمريكية والأوروبية، فضلاً عن العربية الخاصة بالمقاتلين الأجانب، وذلك بتضخيم الظاهرة لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية تتعلق بتبرير التدخلات الخارجية[19]. والحقيقة أن التقديرات أقرب إلى الدقة والحقيقة، لكن الاستثمار السياسي في ملف المقاتلين الأجانب وغياب الشفافية في مجمل المسائل المتعلقة بقضايا "الإرهاب" يضفي دوماً المزيد من الشكوك ويعزز نظريّة المؤامرة.
 
تعليل جاذيبّة الاستقطاب لدى تنظيم الدّولة الإسلاميّة
 
رغم الحملة الدولية الواسعة للتصدي لتنظيم "الدولة الإسلامية" عسكرياً وأيديولوجيّاً وإعلاميّاً، وتصنيفه كحركة "إرهابية"، وكثافة عمليات التضييق والملاحقة والحصار لأعضائه ومناصريه، فضلاً عن أيديولوجيته العنيفة واستراتيجيته المتوحشة وتكتيكاته القتالية المرعبة، وحكامته المتشددة، إلا أن التنظيم تفوق على سائر الحركات الراديكالية الجهادية التاريخية على صعيد الجاذبية الأيديولوجية وعمليات الاستقطاب والتجنيد في هياكله التنظيمية.

نجاح استراتيجية تنظيم "الدولة الإسلاميّة" الدعائية لنشر رسالته الأيديولوجية وجاذبيته تستند إلى العمل في بيئة من الأفكار والمفاهيم والسرديات المساندة، وهو ما يشير إليه جاك إيلول بـ"ما قبل البروباغندا". فبدون تلك البيئة، "لا يمكن للبروباغندا أن توجد"، فالنطاق الكامل لرسائلها الفكرية السياسيّة واسع جداً، بالإضافة إلى الوحشية التي لا تهتم بالشفقة والضحية والانتماء والعسكرة وطبعاً التنبؤ بالطوباوية. ورغم أن استثمار الجهادية عموماً لبعض عناصر هذا النطاق، إلا أن  الدولة الإسلامية مختلفة باستخدامها من النواحي الكمية والنوعية والانتظام ومعالجتها ببراعة[20].
 
 
وتتلخص علل جاذبية الاستقطاب والتجنيد ما قبل دعاية تنظيم الدولة بخمسة أسباب عميقة وهي: أولا: فشل الدولة القطريّة العربيّة والإسلامية سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، وطبيعتها السياسية الدكتاتورية؛ وثانيا: بروز النزعة الطائفية التي أصبحت أحد المفاهيم السائدة في مناطق الصراع في المنطقة وخصوصاً العراق وسوريا؛ وثالثاً: السياسات الغربية الإمبريالية، وخصوصا الاحتلال الأمريكي للعراق، ودعم الأنظمة الدكتاتورية، ومساندة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ ورابعاً: الانقلاب على الربيع العربي الذي أعاد بناء الأنظمة الاستبدادية؛ وخامساً: رمزية وطوبى الخلافة الإسلاميّة[21].

قدرة تنظيم الدولة الدعائية على الاستقطاب والتجنيد وجاذبيته الأيديولوجية تستند إلى شرعيّة الإنجاز، وتوافره على أيديولوجية دينية تتعلق بتمثيل الإسلام السني، وحرصه على بناء دولة تقوم على مفهوم الخلافة وتطبيق الشريعة، وتقديم نفسه كمدافع عن الهوية السنية، وكقوة مقاومة لمواجهة الهيمنة الغربية، وسهولة السفر عن طريق تركيا كونها وجهة سياحية مفضلة، ووجود شبكات دعم وإسناد محلية لديها خبرات واسعة، وسهولة التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والصدع والانقسام السني الشيعي والتعاطف والتلاحم الهوياتي الديني، وجاذبية الجهاد الشاميّ بحكم الجغرافية الخلابة والمدهشة، وعامل الجذب الدينيّ-التاريخيّ وارتباط الشام بالملاحم والفتن آخر الزمان،وهاجس فكرة الخلافة الإسلاميّة[22].

كل تلك الأسباب صحيحة، لكنّ أحد أهم أسباب تدفق المقاتلين إلى الساحة السورية تتمثل بسياسات دولية وإقليمية سهلت ودفعت الشباب لقتال نظام الأسد، الأمر الذي استثمره تنظيم الدولة في عملية الاستقطاب والتجنيد بعد الخلاف مع تنظيم القاعدة. وترتبط عمليات تطويع المقاتلين الكبرى من أفغانستان فالعراق إلى سوريا  برغبة الأنظمة بإرسال الجهاديين لأسبابها الخاصة؛ وهي أسباب ترتبط مع رغبة دوليّة لتحقيق مكاسب استراتيجيّة، وتقوم الآليات المتبعة على جملة من السياسات والإجراءات، وفي مقدمتها إصدار فتاوى  وجوب الجهاد، والإفراج عن المعتقلين الجهاديين ودفعهم إلى ساحات القتال.

لم يشهد سوق الفتاوى الجهادية رواجاً كما حدث في الحالة السورية، حيث تحتفظ الذاكرة بأرشيف واسع من فتاوى الجهاد يصعب حصره؛ حيث ينحصرُ جدل المفتين في كون الجهاد في سوريا يقع في دائرة الجهاد العيني أم الكفائي. ويمكن القول إنّ تبدل الفتاوى الرسمية وشبه الرسمية من الدعوة إلى الجهاد والنفير في سوريا إلى التحذير والتنفير بدأت مع نضوج الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي عقب الانقلاب العسكري في مصر في الثالث من تموز/ يوليو 2013.

كان سوق فتاوى الجهاد في سوريا قبل الانقلاب مزدهراً؛ فبيان هيئة كبار العلماء في السعودية برئاسة عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ بعنوان "حرب إبادة في سوريا" في 26 حزيران/ يونيو 2013، كان واضحاً بالدعوة إلى الجهاد في سوريا.  وفي ذروة الأزمة السورية أصدر 107 من العلماء السنة بيانًا وفتوى بشأن أحداث سوريا في 7 شباط/ فبراير 2012. واضح في هذا السياق، ومن الموقعين إلى جانب الشيخ القرضاوي، مفتي مصر د. علي جمعة، ومعالي الشيخ عبد الله بن بيه من موريتانيا، وتتضمن القائمة أشهر علماء السنة في العالم العربي.

وبلغت فتاوى الجهاد في سوريا ذروتها قبل الانقلاب في مصر. ففي القاهرة في يونيو/حزيران 2013، دعا المشاركون في مؤتمر "موقف علماء الأمة من القضية السورية" إلى وجوب الجهاد لنصرة سوريا بالنفس والمال والسلاح، معتبرين أن ما يجري في أرض الشام من حزب الله وإيران وروسيا والصين، المعاونين للرئيس السوري بشار الأسد، هو "إعلان حرب على الإسلام والمسلمين". وحضر المؤتمر الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، والشيخ محمد العريفي الداعية السعودي، والشيخ محمد حسان، ولفيف من العلماء العرب والمصريين.
 
 
إلى جانب الهيئات والروابط والمؤتمرات الداعية إلى الجهاد في سوريا، يمكن الرجوع إلى مئات الفتاوى الفردية لأشهر العلماء السنة في العالم العربي؛ فالشيخ صالح اللحيدان أفتى بأن: "السوريين من قاتل منهم حزب الكافر بشار نصرة للإسلام وقمعاً للباطل وإعلاء لدين الله فهو مجاهد في سبيل الله". وأفتى المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: "بوجوب نصرة إخواننا في سوريا ودعم الجيش الحر". أما الشيخ عبد المحسن العباد، فقال: "الجهاد في سوريا يُرجى أن يكون في سبيل الله والتبرع لهم بالمال والسلاح من الأعمال الطيبة". وأفتى بذلك الشيخ عبد العزيز الراجحي، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ عبد المحسن العباد البدر[23].

لم تكن الفتاوى الجهادية معزولة عن الدعاية الإعلامية الرسمية بالذهاب للقتال في سوريا، حيث بات تحريض الشباب على القتال في سوريا مادة أساسية في المحطات التلفزيونية العربية الرسمية وشبه الرسمية، كما ازدهرت تصريحات الساسة بضرورة نصرة الشعب السوري. وقد شهدت معظم الدول العربية موجة من العفو عن المساجين الإسلاميين والجهاديين ودفعهم للذهاب للقتال في سوريا. فمسألة العفو عن السجناء اجتاحت العالم العربي بين 2011 و2012، وخصوصا الجهاديين، وبحسب ديفيد هيرست، أطلقت السعودية سراح 1239 سجيناً من المحكومين بالإعدام -بمن في ذلك متهمون بجرائم الاغتصاب والقتل العمد- شريطة أن يتوجهوا إلى "الجهاد في سوريا" حسب مذكرة مؤرخة في السابع عشر من أبريل/ نيسان 2012[24]. وقد أصدر الرئيس السوريّ بشار الأسد عفواً عامَّاً عن كافة الضالعين بجرائم مرتكبة قبل تاريخ 31 أيار/ مايو 2011، حيث شمل العفو "كل الموقوفين المنتمين لتيارات سياسية"، وشمل العفو عن المعتقلين المنتمين إلى جماعة "الإخوان المسلمين" والجهاديين، حيث اشتهرت قصة سجناء صيدنايا ممن سيشكلون النواة التأسيسية للجهادية السورية، ومنهم زهران علّوش، قائد لواء الإسلام والذي بويع فيما بعد كقائد لـ"جيش الإسلام"، وحسّان عبّود قائد "حركة أحرار الشام"، وعيسى الشيخ قائد "لواء صقور الإسلام".

وعلى الرغم من صعوبة تكرار الموجة الكبيرة من تطويع المقاتلين الأجانب على المدى القريب، فإن الأسباب التي أدت إلى بروز تنظيم الدولة الإسلاميّة وعودة انبعاث تنظيم القاعدة، وتدفق الجهاديين لا تزال على حالها.  فبحسب هارون ي. زيلين، هناك خمسة عوامل أساسية ساهمت في معاودة ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" عام 2013، وهي: انسحاب الولايات المتحدة من العراق والضعف المتلازم لقوات الأمن العراقية، ومشاركة التنظيم المتواصلة في أعمال إجرامية محلية وقدرته على استغلال مظالم العراقيين السنّة ضدّ الحكومة المركزية ذات الغالبية الشيعية، وعمليات الهروب الجماعية من السجون من قِبَل رفاق تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق"، واندلاع الحرب في سوريا؛ الأمر الذي حثّ على تعبئة غير مسبوقة للمقاتلين الأجانب[25].
 
مقاربات التعامل مع المقاتلين الأجانب "العائدين"
 
هيمنت بعد هجمات 11 سبتمبر المقاربة العسكرية الصلبة على منظورات مكافحة الإرهاب، وهي مقاربة تستند إلى استخدام القوة وإضفاء الشرعية عليها. بينما سادت قبل أحداث سبتمبر المقاربات القانونية في التعامل مع ظاهرة الإرهاب، وهي مقاربة تؤكد على أهمية فهم الأسباب الجذرية للإرهاب؛ حيث يصبح الخيار العسكري ملاذاً أخيراً. وعلى الرغم من كثرة الحديث عن مقاربات ناعمة لنزع التطرف في التعامل مع المقاتلين الأجانب، فإن جهود مكافحة الإرهاب تعتمد  نموذجين: وهما نموذج العدالة الجنائية، ونموذج الحرب. ويتفق النموذجان في اعتمادهما على احتكار الدولة لاستخدام العنف، حيث تتحمل الشرطة المسؤولية الرئيسة في نموذج العدالة الجنائية بمشاركة من المحاكم والسجون، ويتحمل الجيش المسؤولية الرئيسة في نموذج الحرب.

تبنت معظم الدول نهجاً تجريمياً متشدداً في مواجهة التهديدات المحتملة طبقاً لسياسات "الملاحقة والمحاكمة" الشاملة للجميع دون تمييز. ففي معظم أنحاء أوروبا الغربية، أدخلت الحكومات تشريعاتٍ تتعلق بالإرهاب أكثر قمعاً، وذلك لمواجهة التطرف والتعامل مع التهديد المحتمل الذي تشكله عودة المقاتلين الأجانب. وتشمل هذه التشريعات تعزيز صلاحيات النيابة العامة، وتوسيع نطاق تدابير تسليم الأفراد إلى بلدانهم الأصلية، وإلغاء وثائق السفر، وزيادة صلاحيات الاستخبارات للمراقبة، إلى جانب تجريم السفر إلى مناطق النزاع الخارجية. وشملت التدابير المعتمدة حديثاً في المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا والنمسا وفرنسا، وأماكن أخرى، التعامل مع المقاتلين الأجانب كقضيةٍ أمنية، سواء فيما يتعلق بالمغادرة إلى الخارج أو العودة. وتضمنت الإجراءات حظر الجماعات والمنظمات التي يشتبَه في كونها تساعد في تسهيل تجنيد المقاتلين[26]. كما توسعت فعالية المراقبة الإلكترونية الأمنية لوسائل الاتصال، لكن الاستراتيجيات القمعيّة يمكنها أن توقف عمليات الإرهابيين بحسب لستر، إلا أنها قد تفضي إلى حركة عكسيّة بتغذيتها للحنق، وخلق مظالم جديدة، وتسهيل الاستقطاب إلى قضايا جديدة أو قضايا أعيد إنعاشها، بالإضافة إلى ما نتج عن الحرب على الإرهاب، من تآكل حكم القانون والحريات المدنية للمواطنين وثقتهم بالحكومة[27].
 
 
وفي العالم العربي، قامت معظم الدول بتعديل قوانين "الإرهاب"، بحيث أصبح أكثر تجريماً بالتعامل مع المقاتلين العائدين. وأصبح مصطلح "الإرهاب" يشمل حركات وجماعات سياسية، بل وأصدرت بعض الدول قوائم للجماعات الإرهابية تضمنت مجموعة كبيرة غير مصنفة كحركات إرهابية، وفي مقدمتها  جماعة الإخوان المسلمين. ففي مصر صُنِّفت جماعة الإخوان المسلمين كحركة إرهابية في 25 كانون أول/ ديسمبر 2013[28]، كما قامت السعودية بضم الجماعة إلى قائمة المنظمات الإرهابية في 7 آذار/ مارس 2014[29]، ثم تبعتها الإمارات العربية المتحدة في 15 تشرين ثاني/ نوفمبر2014، بوضعها على قائمة التنظيمات الإرهابيّة[30].

يبرز مجلس الأمن، في قراره 2178 الصادر عام 2014 الصلة بين التطرف العنيف والإرهاب، ويشدد على أهمية تماشي التدابير المتخذة مع القواعد الدولية، ويسلّم بضرورة المنع، ذلك أن "التطرف العنيف الذي يمكن أن يفضي إلى "الإرهاب" يتطلب بذل جهود جماعية، بما في ذلك منع نشر الفكر المتطرف بين الأفراد وتجنيدهم وتعبئتهم لينضموا إلى الجماعات الإرهابية والمقاتلين الإرهابيين الأجانب". ويؤكد على أن ثمة حاجةً إلى اتباع نهج أكثر شمولاً لا يقتصر على التدابير الأمنية الأساسية المتخذة حالياً لمكافحة الإرهاب[31].

لا تزال المقاربات الدولية تستند إلى معالجة قصيرة الأمد من خلال نموذج الحرب والعدالة الجنائية؛ فهي تتعامل مع مسألة المقاتلين الأجانب كإرهابيين أو باعتبارهم إرهابيين محتملين وفق منطق التجريم، مع أن الإحصاءات تشير إلى أن أغلبية المقاتلين الأجانب العائدين لا يتوفرون على نوايا عدائية؛ الأمر الذي يتطلب إعادة  النظر  بالإجراءات الأمنية والقانونية وتوسيع المقاربة على المدى البعيد لتشمل إجراءات أكثر نجاعة وفق منطق السياسات الليبراليةّ، والتي تتضمن عمليات الاندماج الاجتماعي، والتماسك المجتمعي، والعلاقة بين الدولة والمواطن، وفق استراتيجية شمولية تكاملية. فبحسب جيل دي كيرشوف، يجب تقييم أي خطر قد يشكلوه على أساس كل حالة على حدة. فبينما يحتمل أن تنفذ قلة منهم هجوماً إرهابياً، إلا أن الكثيرين قد يكونون مخذولين ويعانون من الاضطراب ما بعد الصدمة. ولربما يشعر بعضهم أنهم قد أدّوا واجبهم كمسلمين من خلال دعم "الربيع العربي" ويحتاجون ببساطة إلى إعادة الاندماج في المجتمع[32].

على الرغم من سيادة المقاربات العسكرية والأمنية الحكومية، إلا أن ثمة قناعة واسعة بضرورة إشراك وتمكين المجتمعات المحلية في عمليات نزع التطرف العنيف؛ حيث يناضل أنصار السياسات الليبرالية استناداً إلى  قرار مجلس الأمن الدولي 2178 الذي يؤكد على ضرورة تمكين الفاعلين المحليين للعمل على نزع التطرف وإعادة دمج المقاتلين الأجانب العائدين. ففي مدينة آرهوس، ثاني أكبر مدينة في الدنمارك، انخرطت الشرطة والمجلس البلدي، بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية الوطنية والمحلية هناك، على نطاقٍ واسع مع المجتمعات الإسلاميّة، لمنع المقاتلين الأجانب من المغادرة من خلال "برنامج الوقاية المبكرة" وتشجيع الآخرين على العودة من خلال "برنامج الخروج"[33].

 وبرزت خلال السنوات الأخيرة في أوروبا  مجموعة من البرامج التي تقوم على سياسة الاحتواء وفق مقاربات غير تقليدية تعتمد على إعادة التوجيه وإدرارة الاعتقاد وعمليات الإدماج في المجتمع، حيث تبنت بعض الدول الأوروبية برامج للتعامل مع العائدين من بؤر الصراعات والعناصر المتطرفة كحالات فردية يتم دراسة كل منها على حدةٍ بحيث تتراوح أساليب التعامل بين إعادة التأهيل الفكري والرعاية النفسية والدمج المجتمعيّ. وتتمثل أهم برامج الدمج المجتمعي في "نموذج أرهوس" في الدنمارك الذي يقوم على مشاركة الأجهزة الأمنية مع المجتمعات المحلية في دمج المتطرفين من خلال توفير فرص لاستكمال الدراسة والعمل وتيسيرات معيشية ومهنية ومزايا اجتماعية بهدف دفعهم لنبذ التطرف والعنف. أما "برنامج حياة" في ألمانيا، فيقوم على التكامل بين التأهيل العقائدي والفكري والنفسي بالتوازي مع التأهيل الوظيفي والمجتمعي لدمج المتطرفين في الحياة العامة ومعالجة شعورهم بالاغتراب المجتمعي[34]. وفي ألمانيا، ظهر مشروع مبتكر آخر يعرف باسم مشروع "حياة"، وينفذ بالشراكة مع المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين منذ كانون ثاني/ يناير2012؛ وذلك لعمل تقييم فردي للمقاتلين الأجانب العائدين، وعندما يكون ذلك ممكناً، يتم توجيههم من خلال عملية الإرشاد وإعادة الدمج.

استراتيجيات وسياسات محاربة الإرهاب ونزع التطرف العنيف أكثر تعقيداً في العالم العربي من نظيرتها في العالم الغربي، وإذا كانت نماذج نزع التطرف قد حققت نجاحات نسبية في الدول الغربية، فإن هذه النماذج مشكوك بنجاعتها وفعاليتها في العالم العربي، وهي لا تعدو عن كونها شكلانيّة تهدف إلى جلب التعاطف الدولي والحصول على تمويلات. وتعتبر تجربة المناصحة الفكرية في المملكة العربية السعودية بمثابة أحد النماذج المرجعية لبرامج مكافحة التطرف الفكري على امتداد الإقليم[35]. وعلى الرغم من الإشادة بالتجربة السعودية في مواجهة التطرف العنيف، إلا أن بعض الخبراء يشكك في فعالية هذه البرامج، وخصوصاً الحملات الدعائية عبر العالم الافتراضي وشبكات التواصل. فبحسب ألبرتو فرنانديز، فإن حملة "السكينة"، وغيرها لم تتمكن من مجارة الحملات الدعاية المنسقة والاحترافية لتنظيم الدولة الإسلامية-داعش، ذلك بأنها تسعى إلى غرس الأيديولوجيا السعودية في الأذهان، علماً أن هذه الأيديولوجيا تلتقي في مجالات مهمة مع أيديولوجيا المتطرفين، وبالتالي تروّج للولاء للأهداف السعودية من دون أن يغر بالضرورة من "نظرة المتطرفين المستقبلية"[36].
 
خاتمة
 
إن تعثر السياسات المتعلقة بالتعامل مع ظاهرة المقاتلين الأجانب واضحة للعيان. وعلى الرغم من كثرة الحديث عن برامج نزع التطرف الناعمة، إلّا أن المقاربات العسكرية والأمنية الصلبة هي المتبعة، وقد تنامت ظاهرة المقاتلين الأجانب بصورة جلية، وأصبحت الأيديولوجيّة الجهادية العالمية  أكثر جاذبية وقدرة على الاستقطاب والتجنيد، وباتت  الجماعات الجهاديّة تتصدر المشهد في بلدان عديدة، ولا يمكن فصل تنامي ظاهرة المقاتلين الأجانب عن أجندة دولية وإقليمية ومحلية.  ولا جدال أن الاعتماد على المقاربة الأمنية العسكرية الصلبة، وإهمال الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أنتجت الظاهرة الجهادية عموما والمقاتلبن الأجانب خصوصاً،  أدت إلى نتائج كارثية. وعلى الرغم من وجود إجماع على أن الديكتاتوريات الداخلية، والتدخلات الإمبرياليّة الخارجيّة، والصراعات الإقليمية الطائفية، المكرسة لتفشي الفساد وغياب العدالة والإنصاف هي الروافع الأساسية لأي عملية تطويع للمقاتلين، إلا أن السياسات الخاصة بمحارية الإرهاب تصر على ربط التطرف العنيف بالاعتقاد. وإذا كانت الموجة الحالية من تطويع المقاتلين توشك على الأفول، فإن توقع موجات جديدة على المدى المتوسط أمرٌ لا مفرّ منه.
 
الهوامش
[1] انظر: تشارلز ليستر، المقاتلون الأجانب العائدون: تجريمهم أم إعادة دمجهم؟، معهد بروكنجز، الدوحة، 2015، ص 1، على الرابط.
[2] لمزيد من التفصيل حول المليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات التي تقاتل في سوريا إلى جانب النظام السوري بقيادة الحرس الثوري، انظر: عبيدة عامر، ملف شامل عن الميليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا، 20 يناير 2016، نون بوست، على الرابط.
ومايكل نايتس، فيلق إيران الأجنبي: دور الميليشيات الشيعية العراقية في سوريا 27 حزيران/يونيو 2013، معهد واشنطن، على الرابط.
[3] انظر: ريتشارد رابيت، ما بعد الخلافة: المقاتلون الأجانب وتهديد العائدين، مركز صوفان، ترجمة آمال وشنان، مركز إدراك للدراسات والاستشارات، على الرابط.
[4] انظر: مسؤول أمريكي يرجح بقاء معظم مقاتلي داعش الأجانب في سوريا والعراق، موقع dw على الرابط.
[5] انظر: حكيم خطيب، ما عدد المقاتلين الأجانب في سوريا؟ هافينغتون بوست عربي، على الرابط.
[6] انظر: تيرنس كي كيلي وجيمس دوبنز  وباربرا سود  ووبن كون، معرفة العدو: فهم الدولة االإسالمية والمبادئ اللازمة لهزيمتها، مؤسسة راند، ص 3 على الرابط.
[7] انظر: "زمان الوصل" تخترق نواة التنظيم .. كشف حساب بأكثر من 40 جنسية جند "الدولة" مواطنين منها، زمان الوصل، 8 آذار/ مارس 2016، على الرابط.
[8] انظر: براين دودويل، دانيال ميلتون، دون راسلير، القوة العاملة العالمية لدى الخلافة: نظرة من الداخل على سجل مقاتلي الدولة الإسلامية الأجانب، ترجمة ياسر البشير وسامر الخيّر، المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي، 5 تموز 2016، على الرابط.
[9] انظر: هارون ي. زيلين، المقاتلون السنة الأجانب في سوريا: الخلفية والعوامل المسهّلة والاستجابات المختارة، على الرابط.
[10] انظر: تشارلز ليستر،المقاتلون الأجانب العائدون: تجريمهم أم إعادة دمجهم؟، معهد بروكنجز، الدوحة، 2015، ص 1، على الرابط.
[11] انظر: النساء يمثلن نحو 30% من المقاتلين الإرهابيين الأجانب، تقرير دولي، مركز أنباء الأمم المتحدة، 26 فبراير 2016، على الرابط.
[12] انظر: الجيش الروسي: قتلنا 60 ألف "داعشي" في سوريا وبقي 10 آلاف، عربي 21، 27 كانون أول/ ديسمبر 2017، على الرابط.
[13] انظر: قائد عسكري أمريكي: قتلنا 60 ألف من "داعش"، الأناضول، 15 شباط/ فبراير 2017، على الرابط.
[14] انظر: الدكتور جميل شاهين، 360 ألف مقاتل أجنبي يقاتلون في سورية،  مركز “فيريل ، أن على الرابط.
[15] انظر عن التضارب المذكور: 900 أردني يقاتلون مع داعش في العراق وسورية، جريدة الحياة اللندنية، 3-5-2017، وهذا الرقم كان نقلاً عن مسؤول كبير تحدث عن داعش والقاعدة معاً، وكذلك الأمر: مقابلة البي بي سي مع رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية،  محمود فريحات، إذ أشار إلى أنّ عدد الأردنيين في الخارج يصل إلى 300 فقط، انظر: الرابط، وقارن ذلك بـ: سماح بيبرس، 4 آلاف داعشي أردني في سورية والعراق، جريدة الغد اليومية، 2/4/2017، نقلاً عن دراسة صادرة عن الكونغرس الأميركي، اما مؤسسة صوفان المعروفة في الاستشارات الأمنية فقدرت العدد بما يزيد على ألفي مقاتل، انظر: عدد المقاتلين الأجانب تضاعف في سورية خلال 16 شهراً، البي بي سي العربية، 9/12/2015، على الرابط.
[16] انظر: التحالف الدولي: نحو 3 آلاف مسلح من داعش ما يزالون في سوريا والعراق، روسيا اليوم، 5 كانون أول/ ديسمبر 2017، على الرابط.
[17] انظر: مسؤول أمريكي يرجح بقاء معظم مقاتلي داعش الأجانب في سوريا والعراق، مرجع سابق.
[18] انظر: لودريان: حوالى 500 جهادي فرنسي ما زالوا في سوريا والعراق، سويس انفو، 8 كانون أول/ ديسمبر 2017، على الرابط.
[19] انظر: وائل عصام، هل تمت المبالغة في أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم "الدولة"؟، القدس العربي، 7 نوفمبر 2017، على الرابط.
[20] انظر: شارلي وينتر، الخلافة الافتراضية: فهم إستراتيجية بروباغندا الدولة الإسلامية،ترجمة ياسر البشير، المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي، على الرابط.
[21] انظر: مهى يحيَ، الجاذبية القاتلة: خمسة أسباب لانضمام الشباب إلى داعش،  مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 7 تشرين ثاني/ نوفمير 2014على الرابط.
[22] لمزيد من التفصيل، انظر حسن أبو هنيّة، جاذبية "الدولة الإسلامية": نظريات الاستقطاب، ضمن: سر الجاذبية: داعش الدعاية والتجنيد، مؤسسة فريدريش إيبرت، مكتب عمان، ص 17 ــ 27، على الرابط.
[23] انظر: حسن أبو هنيّة، السلطوية والإرهاب: أسواق الفتاوى الجهادية، عربي 21، 16 يوليو 2017، على الرابط.
[24] انظر: ديفيد هيرست ماذا بعد تعيين محمد بن سلمان؟، هافينغتون بوست عربي، 22/ 6/ 2017، على الرابط.
[25] انظر: هارون ي. زيلين إعادة النظر في عودة تنظيم "الدولة الإسلامية" بين العامَين 2011 و 2014: دروسٌ للمستقبل، معهد زاشنطن، 18 كانون الأول/ديسمبر 2017، على الرابط.
[26] قامت السلطات الأوروبية بحظر المنظمات الاسلامية التي يشتبه بأنها تعمل على تسهيل السفر إلى سوريا والعراق لغايات تتعلق بالإرهاب، ومن الأمثلة البارزة على ذلك حظر تنظيم "ملة ابراهيم" في ألمانيا في العام 2012 ، ومجموعة "الحاجة إلى الخلافة" في المملكة المتحدة في العام 2014 ، وتنظيم "الشريعة لبلجيكا"في بلجيكا في العام 2015 .
[27] انظر: تشارلز ليستر، المقاتلون الأجانب العائدون: تجريمهم أم إعادة دمجهم؟، مرجع سابق، ص  3 ــ 4.
[28] انظر: الحكومة المصرية تعتبر الإخوان جماعة "إرهابية"، الجزيرة نت، على الرابط.
[29] انظر: أول قائمة سعودية للمنظمات الإرهابية تشمل الإخوان والنصرة و"داعش"، بي بي سي عربي، على الرابط.
[30] انظر: الإمارات تصم تنظيمات أبرزها الإخوان بـ"الإرهاب"، الجزيرة نت، على الرابط.
[31] انظر: الأمم المتحدة، الجمعية العامة، ثقافة السلام: استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، خطة عمل لمنع التطرف العنيف، تقرير الأمين العا،  الأمــم المتحـدة، 674/ 70/ A، على الرابط.
[32] اانظر: جيل دي كيرشوف، جيكوب بندسغارد، دوغ ستون، وماثيو ليفيت، إعادة تأهيل وإعادة دمج المقاتلين الإرهابيين الأجانب العائدين إلى بلدانهم، معهد واشنطن، على الرابط.
[33] انظر: تشارلز ليستر، المقاتلون الأجانب العائدون: تجريمهم أم إعادة دمجهم؟، مرجع سابق، ص 8.
[34] انظر: الخطر المزدوج: آليات مواجهة تهديدات "العائدين من بؤر التطرف"، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، القاهرة، على الرابط.
[35] لمزيد من التفصيل: انظر: كريستوفر بوشيك، الاستراتيجية السعودية الليّنة في مكافحة الإرهاب: الوقاية وإعادة التأهيل والنقاهة، أوراق كارنيغي، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، برنامج الشرق الأوسط، العدد 97، أيلول/ سبتمبر 2008، على الرابط.
[36] انظر: ألبرتو فرنانديز، باقية وتتمدد: مواجهة شبكات الدعاية الخاصة بداعش، معهد بروجنغز، أكتوبر 2015، على الرابط.
حسن أبو هنية

باحث وكاتب أردنيّ، خبير في الحركات الإسلاميّة، لا سيما الجهاديّة منها. أصدر عدداً من الكتب منها منها "تنظيم الدولة الإسلاميّة: الأزمة السنيّة والصراع على الجهاديّة العالميّة" (بالاشتراك)، و"عاشقات الشهادة: تشكّلات النّسويّة الجهاديّة" (بالاشتراك)، وغيرها من الكتب بالتأليف المنفرد أو بالاشتراك. بالإضافة إلى كتابته عشرات المقالات في صحف متعددة عربيّة. وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغتين الإنجليزيّة والألمانيّة.

مواد أخرى لـ حسن أبو هنية

ذات صلة