إعادة تشكيل سوريا القديمة: ديموغرافيا وجغرافية وحوكمة جديدة للبلاد

13 نيسان/أبريل 2017
 
ملخص:
 
يبدو أن سوريا القديمة، أو سوريا ما قبل 2011، لم تعد قابلة لإعادة الإنتاج مرّة جديدة، الأعطاب الكبيرة في العلاقة بين مكوناتها، والدمار الهائل في هياكلها العمرانية وبناها الإقتصادية، والفراغ السلطوي المديد، كل تلك أمور باتت تحتاج إلى قدرات إستثنائية لإعادة تشغيلها وإصلاحها، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل المناخ الدولي المأزوم.
ولا يحتاج الأمر هنا لمحاججات كثيرة للكشف عن صحة هذه الفرضية، فكل السياقات التي تم توليفها على طول سنوات الصراع في سوريا، ليست سوى أدوات تشغيلية لصناعة واقع سوري جديد يسعى كل طرف من خلاله إلى ضمان نصيبه من الحيّز السوري.
وقد ساهمت عوامل عديدة في إنتاج هذه الحالة، وشكّلت محفزات لتحركات اللاعبين في الإطار السوري، فالعامل الجغرافي للبلاد والسيطرة عليه من قبل طرف واحد وضع كل الأطراف الإقليمية والدولية في موقع حرج، وكذلك الأمر بالنسبة لديمغرافيتها وتشابكاتها وتعقيداتها الهائلة. لذلك فان الصراع على سوريا، وتفاعلات اللاعبين المحليين والدوليين، كل ذلك بات يشكّل بيئة جديدة لإعادة تشكيلها في مجالات عدّة.
 
التغيير الديمغرافي.
 
تشكل الكتلة العربية السنية الأساس الإجتماعي والإقتصادي في سوريا، ولذلك فهي الجهة الوحيدة القادرة على التأثير في سياسات الدولة وتوجهاتها ومنح الشرعية للسلطة وأعمالها، وربما شكّل هذا العامل مبرراً لإسترخاء هذه الكتلة وضعف حساسيتها تجاه تفاصيل الشأن السياسي في سوريا، إنطلاقاً من أن تهميشها وتغيبها أمر يصعب تحقيقه طالما أنها تمثل حيثية إجتماعية إقتصادية تفرض نفسها بقوّة الأمر الواقع.
غير أن سنوات الحرب في سوريا أظهرت وجود مخطّط أخذ واضعوه بحسبانهم أيضاً هذه الوقائع، وبالتالي جرى تصميمه لخلخلة تلك اليقينيات، أو أقله ضمن مساحات معينة من سوريا،"1" من خلال عمليات معقدّة تقوم على الترهيب والعنف وحتى بعض الترغيب" عمليات شراء العقارات بأسعار مرتفعة"، وإدراج ذلك ضمن مدى زمني طويل نسبياً، على إعتبار ان إنجاز مثل هذا المتغير يتطلب زمناً ليس بالقصير لتلمّس أثاره على الأرض، واليوم وبعد ست سنوات من العمل على هذا الأمر، يمكن ملاحظة بعض أثاره، مع ملاحظة أن البعض من قارئي هذه الظاهرة يعتبرونها عابرة ومؤقتة وغير قابلة للترسخ أو إمكانية أن تتحول إلى مخرج واقعي للأزمة، وأن أثار هذه العملية ستزول فور صمت المدافع وإجبار الجميع على السلام.
وبعيداً عن مناقشة مثل هذه الطروحات، وهي ليست مجال الورقة، إلا أنه ولدى الأخذ بالوقائع وفقاً لمدلولاتها، فإن التدمير الممنهج للمناطق وتحويلها إلى بيئات غير قابلة للحياة وإدماج ذلك في إطار زمني متوسط، بحدود عشر سنوات، وبالتزامن مع عمليات التكيّف التي تحصل للاجئين في دول الجوار وبلدان اللجوء الأوروبي والأميركي وإضطرار اللاجيئن البحث عن بدائل تضمن إستمرار الحياة لهم ولأبنائهم"2"، عندئذ يصبح المشهد الديمغرافي السوري أمام معادلة جديدة ومختلفة، وإذا أضفنا لذلك عمليات الإحلال " نقل جماعات من الداخل والخارج" لتشغل محل السكان الأصليين، تصبح عملية إعادة تشكيل الديمغرافية السورية مكتملة الأركان، وتخرج من إطار الظاهرة إلى حيز الواقع الراسخ.
ولعل الخطر الكامن في هذا المتغير أنه يجري ضمن سياق جيوسياسي معقد، يستند إلى نظرة كلية للمشهد السوري، أو للأجزاء التي يتم العمل عليها، كما يأخذ من أولوية العمل العسكري للحفاظ على الدولة السورية ذريعةً لصياغة جديدة للديمغرافية السورية، وهو ما اعترف به رأس النظام عبر الإشارة الى مثل هذا الأمور الديموغرافية تحصل في إطار الأعمال الأمنية التي تضطر لها الدول"3".
 
التقسيم الجغرافي.
ويشكّل التقسيم الجغرافي أحد مصادر إعادة تشكيل سوريا، حتى أن الفعالية العسكرية ومجريات الصراع وحيثياته تكاد تنطبق بشكل واضح وصريح على حدود النفوذ والتشكيلات الجغرافية المراد تظهيرها في مرحلة قادمة، وقد وصل الأمر إلى درجة التوافقات العلنية، الغير رسمية حتى اللحظة، على تلك الحدود، ولدرجة يمكن إعتبارها الخطوط الحمراء الوحيدة في الصراع السوري."4"
وعلى رغم تصدّر اللاعبين المحليين لواجهة الحدث في هذا الإطار، سواء عبر نسب عمليات التوسع والتراجع لهم، أو من خلال التصريحات التي يدلون بها عن رغبتهم في السيطرة على الجغرافية السورية، إلا أنه لا يبدو أن لرغباتهم تأثير مهم في عمليات التشكل الجغرافي الحاصلة، والتي تحصل بناءً على موازين القوى الإقليمية والدولية والتفاهمات الحاصلة بين الأطراف الخارجية.
ولذلك تجري عملية التقسيم الجغرافي وفق هندسة ما، وإن بدت في ظاهرها عملية فوضوية، وتبدو أقرب في تطبيقاتها من الناحية النظرية للأفكار الواردة في كتاب روبرت كابلان" إنتقام الجغرافية" والتي ملخصها، فصل الأقاليم البعيدة أو الهامشية عن المركز وضمها للقوى المجاورة.
على ذلك يمكن ملاحظة التقسيمات في سوريا وفق الخريطة التالية:
- منطقة شمال شرق سوريا، تتحوّل تدريجياً إلى منطقة أميركية، حيث تملك الولايات المتحدة أصول عسكرية تتمثل بثلاث قواعد ومطارات، كما أن الطرف الكردي في هذه المنطقة يبدو متحمساً لهذا الوجود. وفي حال تثبيتها كمنطقة نفوذ أميركي فان ذلك يشكل حاجزاً أمام الممر الإيراني الذي تم تأسيسه من الشرقاط إلى ديالي وتلعفر."5".
مع ذلك فمن المتوقع أن تبقى جغرافية هذه المنطقة قلقة وتعاني من استقرار هش لفترة طويلة في ظل اعتبارات عديدة بينها الصراع الكردي – التركي، قربها من الحدود العراقية، وكونها بوابة تركيا إلى الشرق الاوسط، فضلاً عن كونها بالمعايير الاقتصادية تعتبر سورية "المفيدة الحقيقية "لتوفرها على كامل الثروة السورية من النفط والغاز والقمح والقطن.
- منطقة الساحل، أعلنت روسيا هذه المنطقة مغلقة للنفوذ الروسي، حتى في وجه السوريين أنفسهم، وهو ما بدى من خلال اتفاقيات " حميميم وطرطوس"، وقد سارعت روسيا إلى هذه الإجراءات لإدراكها أهمية هذه المنطقة في إطار استراتيجيتها المضادة لتطويق الأطلسي، ومن المتوقع أن يجري مد هذه الإستراتيجية بإتجاه بنغازي في ليبيا وموانئ الجزائر."6".
- سورية الداخلية، وهي التي يطلق عليها تسمية سورية المفيدة، والتي تمتد من حلب إلى دمشق، وتتمتع بنفوذ إيراني من حيث الإدارة والسيطرة، ويمكن ملاحظة العنصر السوري في هذه المنطقة بوصفها قوات مساندة لإيران، أو جزء من مكونات أخرى تشمل بالإضافة لهم، ميليشيات عراقية ولبنانية وأفغانية."7".
 
- المنطقة الجنوبية، لا تزال هوية هذه المنطقة، أو هوية الجهة التي ستسيطر عليها غير واضحة، ذلك أن إيران ترغب في جعلها شرفةً تطل من خلالها على إسرائيل لتثبيت نفوذها في المناطق الخلفية السورية، وتعتبرها إسرائيل مساحة أمان لها في مواجهة التطورات السورية، كما يتطلع الأردن إلى مد نفوذه في هذه المنطقة بالنظر للتشابكات الجغرافية الديمغرافية الهائلة بينها وبين مناطق الكثافة السكانية في شمال الأردن. ورغم أن هذه المنطقة تعتبر أكثر المناطق الخاضعة لتفاهمات وتسويات" التفاهم الروسي- الأردني، التفاهم الروسي- الإسرائيلي"، إلا أنها مرشحة بقوة لصدامات مستقبلية نتيجة عدم تحديد خطوط الفصل والوصل فيها.
وتبرز مخاطر التشكلات الجغرافية، حتى لو تم الإتفاق لاحقاً على إعادة تركيب أجزاء الدولة السورية، من كون هذه الإدارات قد رسخت منطقاً جديداً يقوم على نسج علاقات بين الدول والأطراف المحلية بما يسهم في زيادة التفارق بين مكونات الدولة ويجعلها مرتبطة بالخارج مصلحياً وأمنياً وعقائدياً، ويؤدي إلى إستسهال التضحية بالوحدة الوطنية."8".
 
فيدرالية سريعة التحضير:
تقتحم القوى الخارجية المشهد السوري عبر طرح فكرة الفيدرالية بوصفها مقاربة للحل ومخرج للأزمة المقيمة في البلد، ولا يبدو أن الطرح مقتصراً على روسيا وحدها بل أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على ترتيب الأوضاع في سورية على ذات النهج."9".
تقوم الحجة التي تنطلق منها هذه الأطراف في الطرح الفيدرالي على قاعدة أن فكرة الفيدرالية ليست سيئة ولا تنتقص من سيادة الدول وتطورها، بل هي أسلوب إدارة ناجع يسمح بإدارة ديمقراطية تقودها المجتمعات المحلية بما يساهم في تخفيض منسوب التوتر والصراعات الداخلية ويفتح المجال أمام عملية التحديث السياسي والاجتماعي لسوريا.
غير أن هذا الطرح يتجاوز حقائق مهمة، وهي أن الدول الفيدرالية تأسست من إجتماع كيانات منفصلة بالأصل وتوافق لاعبيها المحليين على الانخراط في كيانات أوسع من أجل تحقيق مصالحها الأمنية والإقتصادية، بينما هي حالة يراد تركيبها قسراً في سورية إنطلاقا من فرضية أن حالة الإنفصال واقعة في سوريا نتيجة الثورة، بل أن الإنفصال سابق على الثورة وأحد محركاتها، وإصلاح الخلل الحاصل يتم من خلال إعادة دمج المكونات عبر المخرج الفيدرالي، وهو أمر غير واقعي ولا تسنده الحقائق، بقدر ما يرتبط بمشاريع جيوسياسية عابرة للمنطقة، وتأثيرها وإرتداداتها الواقعية خطيرة أكثر من فوائدها ذلك أنه تهدد بوضع الكيان السوري على عتبة التفكك الفعلي، كما أنها لا تعدو أكثر من مرحلة إنتقالية تتدرب خلالها المكونات على عملية الإنفصال القادمة."10"
وبالتراكب مع ذلك، ثمّة معوقات داخلية تحول دون نجاح هذا المخرج، بل ترشحه إلى يغدو مخرجاً تفجيرياً قابلاً لإحداث صراعات داخل المكونات نفسها، إما بسبب الصراعات على الموارد في بيئات ذات طبيعة قبلية، أو بسبب الصراع على المناصب في ظل بيئات لا تتتفق على الحدود السياسية الدنيا في إدارة المجتمعات المحلية وتدبير شؤونها وضبط صراعاتها الداخلية"11"، مع التنبه لحقيقة خطيرة وهي أن أغلب الكوادر التي ستتصدر مشهد إدارة الفيدراليات هي كوادر تدربت في ظل مؤسسات  النظام التي كان تعاني من مؤشرات فساد عالية، أو كوادر نشأت عبر سنوات الحرب وتتعاطى مع الإدارة والسياسة بوصفهما معارك ميدانية وإخضاع لمجتمعات محلية.
وتستغل الأطراف الخارجية بديهية أن الإنتقال من حالة الصراع الحالي إلى حالة الإستقرار والسلم تستلزم صياغة عقد إجتماعي جديد بين الأطراف المتنازعة، وكون هذه الأطراف لم تذهب للعملية السلمية إنطلاقاً من قناعتها بانتهاء مفاعيل الصراع، فإنها لن تكون قادرةً في التوافق على وثيقة دستورية تكرس عملية الإنتقال وتضمنها، وبالتالي يصبح مساعدة هذه الأطراف على صياغة هذا العقد، وربما إجبارها بالقسر على قبوله نوعاً من العمل الأخلاقي والجهد النبيل.
ولضمان هضم هذا الإجراء التعسفي، استخدمت روسيا أسلوب الترهيب الحضاري" الحداثي" بأن رفعت شعار العلمانية بديلاً عن الطائفية كركيزة أساسية للدستور السوري الجديد، غير أن هذا الاقتراح ينطوي على فخاخ كثيرة ومقصودة، من ضمنها أن إستخدام مصطلح الحكم الغير طائفي يهدف إلى  منع طرف معين من الوصول للسلطة على إعتبار أن بقية الأطراف والمكونات غير طائفية بطبيعتها وأن الأشخاص الذين يمارسون السلطات ورغم إنتماءهم لطوائفهم إلا أنهم لا يمثلونهم، كما يخفي هذا البند مضموناً تحاصصياً، لكن ليس بالطريقة التي يجري تطبيقها في العراق ولبنان، ولكن بطريقة تدعي التوازن بين الجميع بغض النظر عن نسبتهم في التركيبة السكانية.
كما أنه يعترف للمكونات القومية بمناطق جغرافية ويضع لها سلطة الإنفصال عن الدولة والأم والإندماج ضمن أقاليم أخرى بذريعة حق تقرير المصير، وهو ما ينسف بالتالي الطبيعة التوافقية ويخرجها من إطار التعاقد التوافقي إلى التعاقد المشروط بتحقيق إمتيازات لمكونات على حساب أخرى.
يشكل الطرح الدستوري الروسي الخاص بسورية الجديدة أحد اليات صياغة وتشكيل سوريا، وبالرغم من تخفيضه لصلاحيات الرئيس، إلا أنه يزيح السلطة باتجاه فئات سترث تلك القوة التي كانت للرئيس ويثبتها في نص مكتوب إلى الأبد، عملية تشبه صياغات الدساتير في التجارب العنصرية والتي قسمت الشعوب إلى مراتب ودرجات."12".
بالتزامن مع الإجراءات السابقة، يجري تأسيس بنى سلطوية جديدة في كامل الأجزاء السورية، وهي عبارة عن هجين يجمع بين رجال الدين وقادة المجموعات المسلحة الحروب والوجهات الاجتماعية وبقايا سلطة نظام الأسد، ولا بد من ملاحظة أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على مكون سوري بعينه، فبقدر ما نرى تحالفات رجال الدين وقادة المجموعات المسلحة عند السنة، كذلك يمكن رؤيتها لدى الدروز والعلويين والمسيحيين في سوريا، والواضح أن ضرورات التعبئة والحصول على أكبر قدر من الشرعية ، بالإضافة إلى تحقيق أكبر قدر من الطمأنينة للمجتمعات المحلية التي راحت تتجه إلى الإعتماد على نفسها في تسيير شؤونها الذاتية، ساهم كل ذلك بإيجاد مثل هذه التحالفات السلطوية وجعلها ظاهرة طبيعية.
وسواء ذهبت سوريا إلى الفدرالية أو إلى التجزؤ، أو حتى عودتها دولة مركزية، فإنه يصعب أن يجري تفكيك هذه البنى ببساطة، وحتى لو تم تفكيك البنى العسكرية وجمع السلاح، فإن هذه البنى السلطوية ستكون إما شريكة في السلطة أو صانعة لها أو سلطات رديفة يتم إيكال تطبيق الأوامر لها.
والملاحظ أن هذه السلطات التي ستكون سلطات أمر واقع، ستجعل من تحويل سوريا إلى دولة علمانية مجرد شعار فارغ، يشبه إلى حد بعيد إعتبار لبنان والعراق دول علمانية في ظل المحاصصة الطائفية السائدة.
ولذلك فان عملية صناعة البنى السلطوية في سورية لم تساهم فيها الحرب وضروراتها، بل جرى منحها الشرعية من قبل نظام الأسد أثناء محاولته تأليب المجتمعات المحلية ضد الثورة، ثم أكملت روسيا عبر مستشاريها في " حميميم" هذا المسار عبر التسويات التي عقدتها مع وجهات إجتماعية ودينية وتجار أسلحة وسواهم ممن صدّرتهم مرحلة الحرب.
وإذا كان من الطبيعي أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى إحداث تغييرات في المستوى السلطوي وهياكل الحكم، وقد يتوافق ذلك مع مطالب الناس في التغيير، لكن أن يجري الأمر على هذه الشاكلة فإنه بلا شك يشكّل إنزياحاً خطيراً عما طالبت به الثورة وما تستلزمه دولة المستقبل من وجود سلطة منظّمة، وفي حال استمرار شبكات النظام فإن ذلك لن يعني سوى رفدها بفئات جديدة لتدعيم إستبدادها، أما في حال سقوط دولة الإستبداد فإن الأمر سيتحول إلى استبدال مستبد بمستبد فوضوي."13".
 
وكان من نتائج الحرب في سورية ظهور إنقسامات خطيرة على مستوى الإنتماءات وبروز هويات ضيقّة تستند إلى إعتبارات عرقية ومذهبية، وقد ساهم هذا الانزياح في تعقيد الأزمة وإضافة ديناميات جديدة لها.
غير أن اللبنات الأولى لهذا الإنزياح تشكلت في زمن الأنظمة المستبدة التي تعاملت مع مسألة الهوية من منطلقات نفعية إستبدادية الهدف منها إنتاج مجتمعات منمّطة ومنع ظهور حركات سياسية عبر دمج الهوية ضمن أدوات التحكم والسيطرة السياسية واعتبار أي موقف رافض للاستبداد بمثابة خطر على الهوية.
وإذا كانت الهوية خياراً وطنياً وتخضع بنفس الوقت للتغيرات السياسية، كأن تتحد دولتان تحت مسمى جديد أو تدخل دولة في إندماج مع تكتل إقليمي" أوروبا الموحدة" الأمر الذي يجعل الهوية في حالة تشكّل وصيرورة دائمة، وهذا بعد إيجابي في الهوية يبعدها عن المعنى الضيّق والذي طالما ساهم في صناعة التوتر والصراعات دفاعاً عن الهويات الضيقة وتمجيداً لها.
غير أن المقاربة التي يتم طرحها لإصلاح التأزم الهوياتي السوري ذات طبيعة سياسية مقصودة هدفها إحالة أسباب الصراع السوري إلى عامل الهوية والإيحاء بأن المشكلة تكمن في هوية سوريا العربية"14". والحل يكمن في نزع سوريا من سياقها العربي وكأن سوريا بلد ينطوي على أقليات متساوية في الحجم والعرب واحدة من تلك الأقليات.
ومن مخاطر هذا التشكيل القسري للهوية السورية دفع مكوناتها الكبرى إلى الانكفاء إلى هوياتها الأضيق.

إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
ما يحصل في سوريا من صياغات وإعادة تشكيل بات يرتبط بتحولات مماثلة على صعيد أوسع، أو هو في جزء منه إنعكاس لتلك التحولات، وخاصة إذا ما تم ربطها بالتحولات الجيوسياسية الأكبر المتمثلة في الصعود الإقليمي الإيراني وعودة النشاط الروسي على المستوى الدولي."15".
وترجع فكرة تشكيل الشرق الأوسط إلى مرحلة الإحتلال الأميركي للعراق، حينها طرحت إدارة الرئيس بوش الفكرة في سياق مشروع التحوّل الديمقراطي لدول المنطقة، ومع أن بدايته تمثلت بفعل عنيف " إحتلال العراق والإطاحة بالسلطة الحاكمة" إلا أن المحافظين الجدد أرادوا إستثمار هذه الواقعة كحدث تأسيسي وإستكمال بقية أجزاء المشروع بأدوات ناعمة، من خلال ورشة إصلاحية تبدأ بتحرير الإقتصاد وتمكين المرأة وإصلاح السياسات، لكن يبدو أن هذا الخط لم يكن مصمماً بإحترافية مناسبة، كما أن الحرب العراقية استنزفت القدرات والموارد الأمريكية ما أدى في النهاية إلى بحث أميركا عن مخارج لخروج آمن لها وترك المنطقة في حال من الفوضى.
ومع خروج الولايات المتحدة، وجدت إيران الفرصة مناسبة لتطبيق نسختها الخاصة بتشكيل المنطقة، لكن الطريقة العنيفة في تنفيذ مشروعها، وفشلها في السيطرة على تطبيقاته، دفع أطرافاً إقليمية ودولية أخرى للإنخراط في عملية التشكيل، وفي هذه الأثناء، وفي ظل التزاحم على مناطق النفوذ والتنافس بين لاعبين كثر، تصدعت أجزاء واسعة من الإقليم وتشكلت وقائع وحيثيات جديدة، وبات التشكّل القديم لاغياً أو في حكم الماضي، بل أن إستكمال التشكّلات الجديدة صار مخرجاً للأزمة وحلاً واقعياً لا بد من إنجازه.
ولا شك ان إعادة التشكيل كان لها تداعيات غير مقصودة، من قبيل تنشيط المسألة الكردية في سوريا والعراق وإيران وتركيا، وكذلك مضاعفة حجم المكون السني في لبنان، وهذه الأمور من المرجح أن تشكل خطوط صراع مستقبلية مديدة يصعب إيجاد حلول لها.
كما أن هذه التشكلات تنذر بصياغات دولتية غير مسبوقة في المنطقة يتم تداولها الأن كخيارات سياسية بديلة من نوع الأردن الكبير الذي يضم جنوب سوريا وغرب العراق، ولبنان الكبير الذي يستوعب أرياف حمص ودمشق، ودولة إسرائيل الكبرى التي تستكمل تهجير فلسطيني الضفة الغربية وغزة وإقامة كيان فلسطيني في سيناء المصرية، فضلاً عن الدولة الكردية في سوريا والعراق وإيران وتركيا، ويتراكب ذلك مع حصول تصدعات في البنى الاجتماعية والسياسية في إيران وتركيا وإحتمال ذهابهما إلى التشظي لكيانات أصغر في ظل ظهور حالات التمرد على أسس عرقية ومذهبية في كلا البلدين."16".
ولذلك، بعد سنوات الحرب المديدة، وحجم التصدعات الحاصلة في هياكل وبنى النظام الشرق أوسطي، باتت عودة العودة النظام السابق بمكوناته صعبة إن لم تكن مستحيلة، في ظل عدم توفر الإرادة السياسية لأطرافه، وفي ظل نظام دولي جديدة بات بتشكلاته الفوضوية وتموضعات أطرافه يملك محفزات كثيرة للدفع باتجاه تحطيم التشكلات القديمة رغم عدم التيقن من المالات التي سيكون عليها هذا الشكل الجديد في المستقبل.
 
المصادر.
1- الغارديان: إيران تعيد تشكيل سورية ديمغرافياً ولا مكان للسة، الخليج اون لاين، ترجمة منال حميد، 14-1-2017
2- ماهر أبو طير، مخاطر بقاء النظام السوري على الأردن، جريدة الدستور الأردنية، 14-4-2014
3- بشار الأسد: التغيير الديمغرافي بسوريا يتبدل عبر الأجيال، CNN عربي، 13-9-2016 .
4- غازي دحمان، عودة الجغرافيا في الصراع السوري، العربي الجديد، 14-6-2016.
5- خليل عساف، القواعد الأميريكية في سورية دور مستقبلي، المدن، 9-10- 2016 
6- نذير رضا، روسيا ترسم نفوذها العالمي من قواعدها العسكرية شرق المتوسط، الشرق الأوسط، 15-10-2016
7- سوريا المفيدة’.. لتمكين الوجود الإيراني في المنطقة، مركز الروابط للبحوث والدرسات الإستراتيجية، 24-9-2016.
8- جغرافيا الصراع: ديناميات المناطق الخمس في سوريا، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 8-9-2016.
9- الإذاعة الألمانية: مخطط روسي أميركي لتقسيم سورية، المصريون، 2-3 – 2916.
10- جاد الكريم الجباعي، اللامركزية بين مخاطر التقسيم ونخاطر المحاصصة: إشكالية الإعلام واللغات "3".
11- " فدرلة" سوريا ... قنبلة موقوتة تهدد جغرافيا المنطقة وتضر بروسيا، مركز اوراسيا للدراسات، 11-8-2016
12- حسان القالش، دستور الأقليات السورية؟، الحياة، 7-11-2015.
13- وجهات نظر مُقارَنة بشأن تحدّيات إعادة الإعمار في سورية، سامر عبود، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 30-11-2014.
14-  علاء الدين أبو زينة، سورية ليست عربية؟، جريدة الغد الاردنية، 29-1- 2017.
15- هل تنتهي الأزمة السورية بتشكيل الشرق الأوسط الجديد؟، هافينغتون بوست عربي، 11-10-2016
16- جيل كيبل.. تحولات الدين والسياسية في الشرق الأوسط تمهد لإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، محمد البوشيخي، موقع إسلام مغربي، 23-10-2014، الرابط.
غازي دحمان

حاصل على البكالوريوس في العلوم سياسية من جامعة الفاتح بليبيا. يكتب في عدد من الصحف العربية منذ عام 1997 مثل الحياة والعربي الجديد وموقع الجزيرة نت.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.