بريسترويكا القاعدة من النصرة إلى الفتح

31 تموز/يوليو 2016
 
تتوافق الإيديولوجيات المتصلبة، دينيةً كانت أم وضعية، في سيرورة تحولاتها وتكيّفاتها مع الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الإدعاء بأنها تستند في تحويل وتعديل مساراتها وأطروحاتها وخياراتها إلى ذات السلطة المرجعية الفكرية المؤسسة لأبنينها الإيديولوجية والتنظيمية، وتبرر سلوكياتها الجديدة باعتبارها قراءةً مقاصدية لروح النصوص التأسيسية.
لكن الحقيقة تشير إلى أن الحركات الاجتماعية التصحيحية تنتهي إلى حالةٍ جديدة قد تفضي لمزيدٍ من النكوص إلى وضعيةٍ أكثر صلابة وراديكالية، وقد تَدخل في حالة من التفكك والانهيار والتماهي مع حركات أشد ليونة وليبرالية.
تتشابه تحولات تنظيم القاعدة الإيديولوجية، بنسختها الشامية بزعامة أبو محمد الجولاني، من الناحية الإجرائية العملياتية، مع تحولات الاتحاد السوفيتي برئاسة ميخائيل غورباتشوف، الذي اقترح قراءةً مقاصدية إصلاحية جديدة للإيديولوجية الماركسية اللينينية  لا تخرج عن فلسفتها ومبادئها، وتتعامل مع جوهرها وروحها من خلال اتخاذ خطوات إصلاحية تعمل على تفعيل الإيديولوجية الخطابية في التاريخ المشخص، لتجاوز حالة الجمود والانغلاق والتصلب، باقتراح نهجٍ يقوم على عملية إعادة بناء "بيريسترويكا" والدخول في وضعية الشفافية والانفتاح "الغلاسنوست". لكننا ندرك الآن أن  البيريسترويكا التي  نادى بها غورباتشوف أخفقت في إعادة بناء الإتحاد السوفيتي وأفضت إلى تفككه وانهياره.
عقب طول انتظار وترقب، خرج  أبومحمد الجولاني زعيم جبهة النصرة جناح تنظيم القاعدة في سوريا كاشفاً عن وجهه لأول مرة  من خلال تسجيل مصور، مساء 28 يوليو/تموز 2016، ليعلن عن إلغاء العمل باسم "جبهة النصرة لأهل الشام" وتشكيل كيان جديد يحمل اسم "جبهة فتح الشام"، وقال بـ"أن هذا التشكيل الجديد ليس له علاقة بأي جهة خارجية". وقد جاء رد وزارة الخارجية الأميركية سريعاً بالتأكيد على أن فك ارتباط جبهة النصرة مع تنظيم القاعدة وتغيير مسماها لا يُغير من كونها لا تزال هدفا للقوات الأميركية والروسية، وقال المتحدث باسم الخارجية جون كيربي إن إعلان جبهة النصرة يمكن أن يكون ببساطة مجرد تغيير للمسميات، وإن الولايات المتحدة ستحكم عليها من تصرفاتها وأهدافها وعقيدتها، وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست "ما زالت لدينا مخاوف متزايدة من قدرة جبهة النصرة المتنامية على شن عمليات خارجية قد تهدد الولايات المتحدة وأوروبا".
بريسترويكا القاعدة تشير إلى تمسك "جبهة فتح الشام" بذات الإيديولوجية السلفية الجهادية التي تقوم مبدأ حاكمية الشريعة وجاهلية المنظومات البشرية الطاعوتية. فبحسب الجولاني، يهدف التشكيل الجديد إلى "العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين الناس، والعمل على التوحّد مع الفصائل لرصّ صف المجاهدين، ولنتمكن من تحرير أرض الشام من حكم الطواغيت والقضاء على النظام وأعوانه". وقد شدد الجولاني على أن تأسيس المكون الجديد تم بعد استشارة ومباركة قيادة القاعدة والتي بدورها أصدرت شريطاً صوتياً قبل ساعات من ظهور الجولاني لنائب الظواهري أحمد حسن أبو الخير تضمن كلمة لأيمن الظواهري عن طريق مؤسسة "المنارة البيضاء" التابعة لـجبهة النصرة جاء فيه: "نوجّه قيادة جبهة النصرة الى المضي قدماً بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام ونحثهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر". وقال أبو الخير: "المرحلة التي وصلت الأمة إليها من انتشار الجهاد ودخوله للمجتمع المسلم وانتقاله من مفهوم جهاد نخبة إلى جهاد أمة لا ينبغي أن يقاد بعقلية الجماعة أو التنظيم، بل يجب أن تكون الجماعات والتنظيمات دائرة جمع وحشد لا تفريق ومنابذة"، وأضاف "أن اجتمعوا على ما يرضي الله وتطاوعوا فيما بينكم وتعاهدو على الولاء لأهل الأيمان والبراء من أهل الظلم والكفران"، وقال الظواهري: "إن أخوة الإسلام التي بيننا هي أقوى من كل الروابط التنظيمية الزائلة والمتحولة، وإن وحدتكم واتحادكم وتآلفكم أهم وأعز وأغلى عندنا من أي رابطة تنظيمية".
لا جدال بأن بريسترويكا القاعدة تستند إلى سلطة مرجعيةٍ سلفيةٍ جهادية متصلبة، وهي لا تعدو عن كونها تكيّفات مع وقائع ميدانية معقدة، فالمفاهيم والمصطلحات المؤسسة للكيان الجديد لا تزال هي ذاتها، كالحاكمية والجاهلية والولاء والبراء والطاغوت، والتي تستلزم ضرورة الكفر بما يناقضها من مبادئ الديمقراطية والتعددية والحقوق والحريات والمواطنة. وقد أكد ميثاق المكون الجديد جبهة "فتح الشام"  الذي صدر بعد ساعات على ذات المبادئ القاعدية بأنها تستمد عقيدتها ومنهجها من الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح وعلى "قتال العدو الصائل" ومبدأ "نقاتل لنحكّم شريعة الرحمن" والتزامها بالضوابط الشرعية في سياستها الشرعية، ودعا الميثاق في نقطتيه الأخيرتين إلى السعي لتحكيم الشريعة، والتوحد تحت رايةٍ شرعية سليمة.
في هذا السياق لا تعدو مسألة الإعلان عن كيان جبهة فتح الشام عن كونها بيريسترويكا قاعدية للتكيّف مع تطورات المشهد السوري المعقد، فقد حرص الجولاني على ترسيخ مرجعية القاعدة، واستند في تبرير تغيير التسمية على اجتهادات قيادات القاعدة، بل ذهب إلى الاستشهاد بخطابات مؤسس القاعدة أسامة بن لادن واستدعاء صورته من خلال الظهور بذات المظهر والسمت واللباس.

 
تدرك القاعدة أن مسألة تغيير التسميّة  لا يمكن أن تحظى بالدعم الدولي والإقليمي لمجرد الإعلان عن فك الارتباط مع تنظيم القاعدة، فالمجتمع الدولي ينظر إلى السياسات البراغماتية للنصرة في سياق عمليات من التكيّف والخداع لإعادة التموضع، وفق خطة القاعدة عقب الربيع العربي الموسومة بــ "أنصار الشريعة"، والتي تهدف على المدى البعيد إلى السيطرة المكانية وتطبيق الشريعة، ومناهضة الغرب والأنظمة المحلية، وشن هحمات انتقامية نكائية على الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة. وهكذا فإن دوافع القاعدة تستند إلى قراءةٍ للوضع الميداني السوري وتعقيداته عقب التدخل الروسي والتفاهمات الأمريكية الروسية. فالدافع الأساس لقاعدة الجهاد في بلاد الشام موجهةٌ بالأساس للفصائل الجهادية السورية، وفي مقدمتها حركة أحرار الشام والقوى الحليفة المشكلة لـ"جيش الفتح" والذي جاء تشكيله بدعم إقليمي وتفاهمات تركية قطرية سعودية في 24 آذار/ مارس 2015 ويضم (جبهة النصرة، وأحرار الشام، وجند الأقصى، وجيش السنة، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام). ومع تراجع الدعم الإقليمي والدولي لهذه القوى الجهادية الإسلامية، تعمل القاعدة من خلال فرعها جبهة النصرة إلى استثمار حالة غضب الحالة الجهادية بإعادة الروابط والتنسيق ونزع ذريعة عزل النصرة لارتباطها بالقاعدة، الأمر الذي يضمن استمرارية القاعدة بمسمىً جديد دون إحراج لشركائها ويعزز من حضورها ودورها المستقبلي.
عملية البريسترويكا القاعدية تبدو واضحةً شكلاً ومضموناً، فجبهة النصرة لم تستجب للضغوطات الدولية والإقليمية التي بلغت ذروتها عقب خسارة النصرة للمنطقة الشرقية في آذار/مارس 2014 بعد الصدام مع تنظيم الدولة الإسلامية، وتحول الأولويات الدولية ــ الإقليمية تجاه القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، ومحاولة استدخال الفصائل الجهادية ضمن إطار الاعتدال وفق المعايير الأمريكية. حيث لم تفلح تلك المحاولات بفك ارتباط النصرة عن القاعدة رغم المغريات والحوافز الكبيرة، فحسابات القاعدة وفرعها الشامي النصرة كانت تشير إلى أن خسائر الانفصال تفوق منافع الاتصال. وقد ظهر جلياً أن القاعدة عملت على نقل مركز ثقلها من أفغانستان وباكستان إلى سورية، فقد جاء في خطاب الظواهري الصادر عن مؤسسة "السحاب" الإعلامية التابعة للتنظيم تحت عنوان "انفروا للشام" في 5 أيار/ مايو 2016 دعوة صريحة لأتباع وأنصار القاعدة للتوجه إلى "النفير للشام"، وعندما  أطلقت طهران في آذار/ مارس 2015  سراح خمسة قياديين في تنظيم القاعدة كانت تعتقلهم، في صفقة تبادل تبادل أسرى مع التنظيم في اليمن الذي كان يحتجز الدبلوماسي الإيراني نور أحمد نكباخت في العاصمة اليمنية صنعاء منذ تموز/ يوليو 2013، صدرت أوامر القاعدة بتوجههم إلى سورية وهم سيف العدل  وأبو الخير المصري وأبو محمد المصري وخالد العاروري (أبو القسام) وساري شهاب.
لقد يدا واضحاً أن تغيير التسمية من النصرة إلى الفتح تقع في إطار بريسترويكا القاعدة لإعادة التموضع في بلاد الشام. فقد صدر شريط القاعدة بصوت نائب الظواهري أبي الخير عن مؤسسة المنارة البيضاء التابعة للنصرة، ولم يصدر عن مؤسسة السحاب التابعة لتنظيم القاعدة المركزي. كما أن الجولاني حرص على الظهور إلى جانب قيادة محلية سورية  ويمثلها عبد الرحيم عطون الملقب بـ"أبي عبد الله الشامي"، وأخرى أجنبية عالمية مصرية وممثلها أحمد سلامة مبروك، الملقب، بـ"أبي الفرج المصري"، وهما من القيادات الشرعية للنصرة، ولم يظهر المسؤول الشرعي العام للنصرة الدكتور الأردني سامي العريدي، وهو أمر بالغ الدلالة لغرض التعمية وخلق مزيد من الانطباعات الإيجابية.
أحد الإشكالات التي تبرز في بريسترويكا القاعدة تتجلى في مسألة البيعة، ففي الوقت الذي نقض فيه الجولاني بيعته لزعيم القاعدة الظواهري بالتشاور معه، وهي بيعةٌ فرعيةٌ صغرى، لم يتطرق إلى مسألة بيعتهما الكبرى لأمير المؤمنين هبة الله أخوند زعيم حركة طالبان، وهي بيعة لا يمكن نقضها بحال بحسب الإيديولوجية السلفية الجهادية القاعدية. وبهذا فإن تغيير التسمية تنسجم مع تحولات القاعدة وتكيّفاتها باعتبارها رسالة إيديولوجية قبل أن تكون تنظيمة بحسب الظواهري. فالقاعدة تحولت إلى تنظيمٍ لا مركزي عقب هجمات 11 سبتمبر وقراراته غير ملزمة، وهي تسعى إلى إلى فرض هيمنتها من خلال التحول من  جهاد النخبة إلى جهاد الأمة.
 
 
عملت جبهة النصرة بالتنسيق مع قيادة القاعدة على دراسة عملية التكيّف على مدى شهور طويلة، وتوصلت إلى صيغة الكيان الجديد بعد مداولات ومشاورات شاقة ومضنية، تجنباً لوقوع انشقاقات وجلب أكبر قدر من الدعم من منظري الجهادية العالمية وفروع القاعدة والحركات المساندة. ففي كانون ثاني/ يناير 2016 طَرحت النصرة مبادرة للتوحد مع الفصائل الجهادية كي تتمكن من مقاومة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وتضمنت مبادرة الجولاني عدة نقاط من أبرزها: "تحكيم الشريعة، ورفض العملية السياسة، وحماية المهاجرين، وتوحيد الإمارة والقضاء"، وأعلن الجولاني في الاجتماع أنه سيتنازل عن الإمارة واسم الجماعة في سبيل التوحد، وقد وجدت المبادرة ترحيباً لكن فصائل جيش الفتح  اشترطت فك ارتباط النصرة بالقاعدة.
 
خلاصة القول أن إعلان النصرة عن تغيير اسمها من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام لا تعدو عن كونها بريسترويكا قاعِدِية لمواجهة التحولات التي طرأت على الثورة السورية، لإعادة القاعدة بمسميات جديدة وإعادة التموضع ونقل ثقل التنظيم إلى المنطقة، واستثمار تراجع الدعم الإقليمي عن دعم الفصائل الجهادية، وتنشيط الروابط الجهادية التي مزقتها التدخلات الإقليمية والدولية. وهي تأتي لأسباب موضوعية تتمثل بتراجع دعم أصدقاء سورية، والتفاهمات الأمريكية الروسية، ومحاولة استثمار تراجع تنظيم الدولة الإسلامية في ظل الحملة الدولية، وتقديم بدائل عملية في إطار الصراع على تمثيل لحالة الجهادية ونقلها من النخبوية إلى الجماهيرية. فخطة القاعدة موجهةٌ للجهاديين، وهي تدرك أن المجتمع الدولي لن يتعامل معها بجدية ما لم تتحول إلى ممارسات عملية تنبذ ما يسمى "الإرهاب"، وتدخل في أفق الديمقراطية ومفهوم الدولة المدنية. لكن السؤال: هل تنجح بريسترويكا القاعدة أم أنها سوف تفضي إلى ذات النتيجة في الحالة السوفيتية وتدخل في مسارات التفكك والانهيار؟ اعتقد أنها ستحقق نجاحات محدودة على المدى القريب، لكنها ستدخل في سيرورة من التفكك والتحلل على المدى البعيد.

SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave

حسن أبو هنية

باحث وكاتب أردنيّ، خبير في الحركات الإسلاميّة، لا سيما الجهاديّة منها. أصدر عدداً من الكتب منها منها "تنظيم الدولة الإسلاميّة: الأزمة السنيّة والصراع على الجهاديّة العالميّة" (بالاشتراك)، و"عاشقات الشهادة: تشكّلات النّسويّة الجهاديّة" (بالاشتراك)، وغيرها من الكتب بالتأليف المنفرد أو بالاشتراك. بالإضافة إلى كتابته عشرات المقالات في صحف متعددة عربيّة. وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغتين الإنجليزيّة والألمانيّة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.