Print this page

الإسلام العدمي وتشظي المجتمع السني: حالة العراق أنموذجاً

09 أيلول/سبتمبر 2018
 
مقدمة

اذا كانت مصادر النفس والذات المسلمة ستتشكل بالأساس انطلاقاً من لحظة الفزع المحمديّ في تلقي الرسالة عبر جبريل والتي ستدشن رحلة  الإسلام في محطته الأخيرة داخل العالم من خلال المسيرة البشريّة الطويلة والمتعبة، فإن لحظة مدفع نابليون ستمثل لحظة تنافس تلك اللحظة؛
إنها لحظة ستعمل بالأساس على تشويش ذلك المصدر الأساس في محاولة لقتله أو لتجاوزه عبر علمنته كما فعلت فضاءات أخرى (العالم المسيحي). فهي لحظة تعبر عن  تبدُلٍ  للأوضاع؛ فالشريعة المحمدية القارة منذ لحظة الفزع ستجد نفسها في مأزق لم تشهده من قبل متمثل في أنها يجب أن تقوم بتبرير وجودها داخل فضائها المكاني وفق فضاء زماني مغاير لذلك الفضاء الذي شكلته من قبلُ. وسيصل الأمر إلى حدود أنها مع لحظة ما بعد فوكو "يفترض لها أن تكون ميتة"1.

منذ تلك اللحظة الأساس لمدفع نابليون، سيحاول العالم الإسلامي تدارك أوضاعه عبر منعرجات ومسارات كثيرة وما زالت المعاناة مستمرة، ما بين محاولات تحاول الانتصار التام والكلي للحظة الفزع المحمديّ ومحاولات التطبيع مع مدفع نابليون وقيمه من دون التخلي عن لحظة الفزع المحمدي ومحاولات الانخلاع عن لحظة التاسيس الأول (الفزع المحمدي) لصالح مدفع نابليون وقيمه.

ما يهمنا هنا في حديثنا بالأساس هو العالم السني؛ لأن طرائق التلقي بين العالمين السني والشيعي مختلفة إلى حد كبير، بحيث  إنه بمستطاعنا  أن نجد امتيازاً في العالم الشيعي عن العالم السني متمثل في مشاركة النخبة اللاهوتية الكلاسيكية في الفضاء السياسي الشيعي وتشكلاته.  فتلك  النخبة  ستبلور  نظرية سياسية -ولاية الفقيه- تدمج بين عالمين مختلفين (عالم الفزع المحمدي) و(عالم مدفع نابليون وقيمه)، تلك النظرية التي ستساهم في تأسيس جمهورية إيران الإسلامية والتي ستكون بمثابة دار خلافة في ثوب حديث للفضاء الشيعي3.

لن نستطيع أن نعثر على ذلك الامتياز في العالم السني، فالعالم السني منذ اللحظة الأولى سيسير على خطى التشظي المتتالية، فالنخب الكلاسيكية ستندمج تدريجيّاً إلى أن تصل للحظة الذروة مع تشكل دول ما بعد الاستقلال الوطني لنخب طيّعة وفق دينٍ جديدٍ تٌحدده أنظمة دولتيّة علمانية. وسيختبر العالم السني مسارات عدة عقب لحظة مدفع نابليون نجملها في مسارين 1- مسار النقاشات العلمية النخبوية متضاربة ما بين إحيائيين وتقليديين وإصلاحيين إلى حدود لحظة انهيار الخلافة؛ 2- مسار التنظيمات الاجتماعية والتي ستنطلق عقب انهيار الخلافة وسيشهد ذلك المسار نفسه منعرجات ومسارات مختلفة (إسلام سياسي - إسلام جهادي -إسلام عدمي).

نحن بهذا التقسيم نضاد تقاسيم مختلفة مشوشة في الحقيقة، نحن نحاجج بأن التقسيم الأساس هو ما بين إسلام سياسي وإسلام عدمي.  الإسلام الجهادي هو إسلام سياسي ولكن وفق اعتبار مخصوص وهو وجوده تحت احتلال (حماس أنموذجاً). يفترق الإسلامي السياسي (الإخوان المسلمين أنموذجاً) وتطوراته الإسلام ما بعد السياسي (حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية التركي) عن الإسلام العدمي (تنظيرات قطب المودودي والقاعدة) وتطورات الإسلام ما بعد العدمي (داعش أنموذجاً) في المعنى والمسعى. فالمعنى الذي سيتحلق حوله الإسلام السياسي قائم بالأساس على تأويل لحظة الفزع المحمدي ومسيرته في ضوء أوضاع جديدة (مدفع نابليون وقيمه).

لذلك فإنه سيقوم في مسعاه بالارتكاز على نبي سياسي برجماتي (الإسلام دين ودولة) وفق سياسة تسييس الهوية، بخلاف الإسلام العدمي الذي يقوم على ما يسميه ياسين الحاج صالح "عدمية فيض المعني"2. وطرافة ذلك الإسلام أنه لا يمتثل بل يضاد في جوانبه لحظة الفزع المحمدي ومسيرته؛ فهو قائم على فرط حضور الرب إلى حد إفناء روحه فيه؛ وهذه الرؤية للإسلام  ستُهاجم وفق رؤية الإسلام الكلاسيكي (نقد الشيخ يوسف القرضاوي لسيد قطب وأطروحاته؛ وقطب هو الممثل الرئيس لتيار الإسلام العدمي). يرتكز الإسلام العدمي في مسعاه على نبي يتحكم فيه الغضب والرفض التام، نبي عسكري مقاتل. ولذلك فإن تيار الإسلام العدمي سيقوم بعسكرة الهوية.

بالتأكيد، سيحدث تلاقٍ ما بين الإسلام السياسي والإسلام العدمي يتمثل كأنموذج في لحظة التأسيس الثاني لجماعة الإخوان المسلمين عقب الخروج من معتقلات جمال عبد الناصر في عهد السادات. وسيحدث تسلل لأفكار قطب العدمية داخل كيان الجماعة، والتي ستعمل على  إعاقة أي تطور داخل الجماعة بعكس ما حدث مع حركة النهضة والعدالة والتنمية التركي التي هي -كحركات ما بعد اسلاموية- امتدادات نقدية وتقومية للأصل الإسلاموي.
 
نحن هنا ومن خلال دراسة "دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي، داعش  والمجتمع المحلي في العراق"4  للباحث الراحل فالح عبدالجبار -ونحن هنا نعتبر داعش تطور داخل الإسلام العدمي- نحاجج بأن كل نقاش حول إشكال نعايشه في عالمنا المعاصر لابد وأن نناقشه في ذاته انطلاقاً من حاضره. فالنقاش الذي يُثار حول الإسلام العدمي أو الإسلام السياسي ورد أشكاله لخلل كامنِ في التراث هو يقوم، بالتبعية، بتسخيف أطروحته. يأتي الإشكال من هنا، وستكون علاجاته المطروحة هي علاجات تزيد من الداء ولا تقوم بمعالجته.

من خلال أطروحته السوسولوجية، يحاول فالح عبد الجبار العمل على أمرين أ- تفكيك مسار داعش  مستكشفاً الأسباب التي أدت إلى انبثاقها؛ ب- تناول داعش وتعاملها مع المجتمع المحلي العراقي.
 
أولا : مسار تشكل داعش

يتشكل مسار داعش من وجهة نظر فالح عبد الجبار عبر ثلاثة مسارات:  مسار عوامل خلل بنيوية أصابت الدولة  العراقية، ومسار عوامل خلل بنيوية أصابت المجتمع السني العراقي، ومسار عوامل أايديولوجية مهدت لانبثاق وتعاظم ظاهرة داعش.

  • عوامل خلل بنيوية أصابت الدولة العراقية
 
فظاهرة داعش انبثقت من خلال نمطين أ- فشل وإخفاق ثورات الربيع العربي في التحقق، ومعنى التحقق نعني به أن تقوم بما وعدت به من إحداث تغيير ديمقراطيّ وتدشين مرحلة تكون فيها الجماهير ممثلة أو متاحاً لها أن تكون ممثلة؛  ب- النمط الثاني وهو خاص بالدولة العراقية وهو قائم على أساس تفكيك النظام البعثيّ القديم عبر الاحتلال وإخفاق التشكل السياسي الجديد وقيامه  بالأخطاء نفسها لسالفهِ، ولكن من موقع جديد، أي من موقع الشيعيّ-الكردي وليس السني كما النظام القديم.

لنقرر أمراً في غاية الأهمية باعتقادي وهو متعلق بطبيعة الدولة الحديثة التي ما زال العربيّ يعاني في التأقلم معها بسبب سيطرة أقلية -(طائفية أو إثنية أو أوليجارشيّة)- سيطرة كلية، ألا وهو أنّ الدولة الحديثة كارثية في حالة انحرافها أن تكون ممثلة للجميع أو بصورة أدقّ أن تكون متاحة للجميع، بحيث يمكن للجميع فيها أن يكون ممثلاً، والكارثة الأخرى في حال انهيارها.

أين يقع العراق من كل هذا؟  يقع العراق في مسار الانحراف، ومن ثمّ الانهيار. فالعراق، كدولةٍ، سيفشل في أن يكون مُتاحاً للجميع أن يكون مُمثلاً بداخله، وهذا سينعكس على الإخلال بمبدأ أساس للدولة الحديثة وهو أن تكون الدولة مظلة جامعة للكل. والكلّ هنا يندرج تحته الاختلاف العرقيّ والاختلاف الدينيّ والاختلاف اللغويّ والاختلاف الإثنيّ. فالعراق كأمّة  حاوية لاختلافات جدّ متباينة، فشل في أن تغدو فيه الأمّة بانية  للدولة، والدولة حاملاً  للأمة (ص39).

الدولة العراقيّة منذ البدء وهي دولة مأزومة في جميع تشكّلاتها التي شهدتها سواء مع لحظة الميلاد في عام 1921 على يد الاحتلال البريطانيّ وهندسة النظام السياسيّ والاجتماعيّ وفق مصالحه، والذي قام على مقاربة "إنشاء دولة مركزية موحَّدة، بنظام برلمانيّ دستوريّ، على رأسها ملك عربي، من منحدر قرشيّ نبيل، في إطار اقتصاد مختلط: اقتصاد سوق في المدن/ واقتصاد شبه إقطاعي في الأرياف"(ص41). في التشكل الثاني للدولة العراقية على يد الأيديولوجيا العروبيّة البعثية ستقوم على رافعة أقليّة سنية مهمشة لكل مخالف لتلك الأيديولوجيا ورافعتها. التشكل الثالث على يد الاحتلال الأمريكيّ، والذي تقوم مقاربته على أساس إقامة "نظام ديمقراطي/فدرالي/لامركزيّ، على أساس اقتصاد السوق" (ص43).

والأمريكيّ ههنا بناءً على تجاربه السابقة في اليابان وألمانيا يقوم بما يسميه بناء الديمقراطية من أسفل ولكن بقرار إداريّ من أعلى. خلافاً للبريطانيّ، قام الأمريكي بتفكيك شامل لكلّ مؤسسات وأجهزة الدولة سينج عنه فراغ أمنيّ وإداريّ سيتسبب في فوضى عارمة تساهم في تشكيل ظاهرة داعش. فبخلاف البريطانيّ، والذي أسّس النظام السياسيّ العراقي على أساس تحالف سنيّ شيعيّ مع تفاهم جانبي كرديّ،  سيقوم الأمريكي بتأسيس النظام الجديد على أساس تحالف شيعي كردي بمظلة لامركزية -فدرالية وفشل في تأسيس تفاهم مع الجانب السنيّ.

في أثناء كل تأسيس سياسيّ واجتماعيّ جديد يحاول كلّ طرف من الأطراف المتنازعة حول تشَّكلِهِ كسب مساحة أوسع أمام الأطراف المناوئة، وفي عراق تقوم أطرافه بناءً على الهوية العرقيّة والطائفيّة -وليس على أساس صراع حزبيّ متاح للجميع في أن يمثل داخله بغض النظر عن طائفته وعرقه-. سيتم تسيس تلك الهويات الفرعية ومن ثمّ عسكرة تلك الهويات وقيام الاحتراب الأهليّ.

أين نستطيع أن نجد كل ذلك بوضوح سنجد ذروة ذلك كما يحددها عبد الجبار في ولاية المالكي الثانية والذي سيحكم بميول تسلطيّة: "حكم المالكي حزب الدعوة باسم الطائفة، وحكم النخبة القيادية باسم حزب الدعوة، ثم حكم المالكي ودائرته الضيقة (ابنه أحمد وأنسابه) باسم النخبة. ولذلك، فإن المالكي سيقوم بخرق أربعة أسس للدولة-الأمّة؛ مبدأ المشاركة في الموارد السياسية والاقتصادية والإدارية والثقافية؛ ومبدأ الحكومة الائتلافية؛ ومبدأ النظام البرلمانيّ؛ ومبدأ حل النزاعات ومكافحة التمرد" (142-143). هذا النّزوع التسلطيّ سيساهم وبشدّة في فشل التشكّل السياسي والاجتماعيّ الجديد أن يكون، ومن ثمّ عودة عدم الاستقرار وظهور تيارات عدميّة هذه المرة تحت يافطة أيديولوجية إسلامويّة.

  • المسار الثاني : مسار تيه وتمزق المجتمع السنيّ

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف بدأَ وترعرعَ المخيال العدميّ للسنيّ العراقيّ؟ يحدد فالح عبد الجبار لحظة الهزيمة العسكريّة  للنظام البعثي والذي يقوم على رافعة سنيّة بحرب الكويت عام 1991، ذلك العام الذي سُيبتدأ فيه مسار طويل سيُتوَّج بالاحتلال الأمريكي عام 2003 وهو مسار تقويض الدولة العراقيّة بتشكلها القائم، من تلك اللحظة ستتحد الدولة وتلتحم مع رافعتها السنيّة بعد الشعور بالتهديد الوجوديّ.

فمسار تكون الهوية سينطلق عبر مسارات متعرّجة ينطلق من قطار الدفاع عن دولة الجماعة إلى الدفاع عن جماعة الدولة (الجماعة السُّنَّية) ثم الانتقال إلى المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي (2003) ثم المعارضة المسلحة (2004-2008) ثم إلى تشكيل الصحوات برعاية الأمريكان ضداً للعنف الإسلامويذ العدميّ (2006-2008)، ثمّ تفكك الصحوات على يد نوري المالكي (2011-2012)و الانتقال إلى مسار الانخراط السياسيّ (القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي عام 2010) والذي رغم انتصار المسار بالبداية،إالا أنّه لم يستمر طويلاً وعاد المالكي (2012) بسلطة مستبدّة ثم الانتقال إلى الحراك الشعبيّ السياسيّ (2013) ثم ظهور داعش كتيار عدمي رافض للكلّ؛ وهو تتويج لكل تلك المسارات الفاشلة (عام 2014).

ما يهمنا هو تحديداً المسار الأول من 1991 إلى 2003، وكيف ساهمَ ذلك في تبلور فكرة هوويّة سنيّة سينفذ منها الإسلام العدميّ إلى أن يصل ذروة نفاذه إلى عام 2014، وسيطرة تيار عدميّ كداعش على مساحات شاسعة من العراق.

سيبتدأ المسار بما يسمّى الحملة الإيمانية؛ وهي حملة قامت من الدولة تعمد إلى تغييرات بالحزب البعثيّ والمجتمع تلتحم الدولة بحاضنتها المهددة السنيّة؛ حيث ستتماهي الطائفة مع الزعامة البعثية بغية حماية امتلاك الدولة وتلك الحملة ستقوم، كما يقول عبد الجبار، وفق قاعدة علمانية الدولة؛ ولكن هذا ليس صحيحاً إلى حدٍ كبير. فالحزب في اجتماعٍ لقيادته ذات يوم سيطرح زعيمه تساؤلاً هاماً عن طبيعة حزب البعث "أهوَ علمانيّ أم إيمانيّ؟" (ص116). ستأتي الإجابةُ من فورها بأنه حزب إيمانيّ، وسينعكس ذلك على أرض الواقع حيث إطلاق يد الدولة في مجال التربية الدينية وتحديد أشكال الأسلوب واللباس وإصدار مدونة عقوبات جديدة دينية، وتعميم الأسلمة عبر دورات دينية للحزبيين وفرض  الحجاب وفرض قيادات في مستويات محددة داخل الحزب بأداء الصلوات. ولكن هذا المسار (الحملة الإيمانية) سينفلت من يد الدولة لتتلقفه الجماعات السلفية لنشهد ظاهرة ما يسميها عبدالجبار بظاهرة "صعود السلفي المحارب" (ص119).

ما هو هام، وتفصح عنه تلك الحملة، هو أننا أمام دولة تنزاح عن أيديولوجيتها العروبيّة التي تأسست وفقها، وحلت بديلاً عن أيديولوجيا السلفيّ المحارب العدمي (ص124)؛ ففي دولة استقالت من القيام بشرائط وجودها في حدّها الأدنى من الطبيعي أن تتأول تلك مبادرات كالحملة الإيمانية التي أطلقها حزب البعث، ليكون له تأويل بخلاف ما تريده الدولة. فالحملة ستكون لها ترجمة مختلفة في محافظات نقية طائفياً لصالح السني لينطلق السلفي فيها بحرية وفقاً لأجندته الكلاسكية العدمية النافية لكل ما عداه، والرافضة للكل لكي يؤسس أيديولوجيا جديدة لطائفته بعد انهيار الأيدولوجيا العروبية.

لم يكنِ  الإشكال كبيراً في عراق ما قبل الاحتلال، نظراً لمقدرة ما لا تزال كانت الدولة قادرة على القيام بها متمثلة في لجم كل تطرف لا تريده الدولة تجاه الإثنيات والطوائف الأخرى. ولكن ذلك سيتغير في عراق ما بعد الاحتلال 2003م، ولكن مع مجتمع سنيّ يرى ضياع امتلاكه للدولة وتهديد مباشر لوجوده ينعكس في فقدان سيطرته على الموارد السياسية والاقتصادية. فهو، بذلك، صار عارياً ويفكر جدياً في كيفية مواجهة ذلك الضياع، ولكن ستتشظى تلك العلاجات في إنقاذ ذاته، ما بين سلفي "جاهز كي يخوض حرباً مقدسة كلية شاملة وحرباً ضد الجميع، لا يعترف بالسياسة"، وبعثي "مستعد كي يكون المحارب أو المحتج سلماً، فهو يريد استعادة مِلكية دولته بالعنف أو بالسياسة"؛

حيث فقد بضياع دولته مكانته وشرفه  وهو لأجل ذلك يفكر بطريقة برجماتية, ولذلك سيتفاعل مع كل المشاريع المطروحة أمامه وصولا إلى تكوين كائن هجين يطلق عليه فالح عبد الجبار باسم "البعثيّ-السلفيّ" عبر تفاعله مع السلفية العدمية المحاربة. وهناك الإسلامي الإخواني  فهو يرى في سقوط الدولة خسارة ومكسباً. أما شيخ القبيلة، "فهو أكثر حيرة، فقد رعاية الدولة القديمة؛ فهو بدون تلك الرعاية سيصبح غير قادراً على "تحريك القبيلة بوصفها وحدة للفعل الاجتماعي" (ص126-127).

  • مسار العوامل الأيديولوجيّة

داعش التي تتلبس بلبوس الخلافة هي تجلٍّ جديد من تجليات الاشتباك مع أهم عنصر من عناصر الأيديولوجيا الإسلاميّة في العصر الحديث. وإذا كان الفكر السياسيّ الإسلاميّ الكلاسيكيّ استهلك ذاته في النقاش حول الخلافة وكيفياتها وشرائطها، فستكون أيضاً حاضرة في عصر حديث ولكن وفق أوضاع جديدة فترت فيه الشريعة. حدث هذا في عصر الاستعمار وعصر ماتت فيه الشريعة في دول الاستقلال الوطني، الخلافة التي بانهيارها ستعني انهيار الذات الجمعية للمسلمين السنة تحديداً.

والنقاش  حول الخلافة سيتم وفق نمطين: فقهي كلاسيكي ونمط سوسيولوجيّ سيصل مده إلى حدّ اقتراح الشيخ رشيد رضا لمدينة الموصل في العراق كأفضل مكان لإقامة الخلافة وفق أسباب يراه هو. كل نقاش حول الخلافة أو حول الفكر السياسي الحديث من قَبِل المنتمين لتيارات الأيديولوجيا الإسلامية هو نقاش مريع وهشّ. إنّه نقاش "يجمع بين النار والماء: الخلافة وأهل العقد والشريعة مع فكرة البرلمان، والأمة العربية مع الجامعة/الأمة الإسلامية" (ص61). العجيب في كل ذلك أن النقاش حول التجديد السياسي والاجتماعي أنه سينجح كما قلنا في الفضاء الشيعيّ مع تيارات الإسلام الشيعي  الذي استولت فيه نخبته العلمية السلطة عقب الثورة الإيرانية، بخلاف العالم السنيّ الذي تبلورت فيه دوله بمعزلٍ عن أي تاثيرات مجتمعية أو فضاءات نخبوية علمية.

ما يهمنا هنا رحلة الإسلام العدمي التي ستدشن عقب فشل كل تيارات الإسلام السياسي في العالم السني في تأسيس التشكلات السياسية والاجتماعية التي أعقبت رحيل المستعمر؛ فكان العلاج الوحيد هو الرفض التام لكل شيء إلى أن يصل ذروة الرفض مع داعش؛ فداعش ستتشكل وفق طبقات ثلاث عملية "طبقة أفغانية، طبقة عراقية، طبقة سورية"5.

سيحدث في عراق ما بعد الاحتلال داخل حركات العدميّة السلفيّة نزاع سيدشن معه ولادة المولد الجديد "داعش". فالنزاع يدور بالأساس حول من يمتلك دفة قيادة العمل الجهاديّ؛ فمن تنافس عراقي-عربي، حدث تنافس عراقي-لاعراقي أبانَ عن تباينات هامة بين الطرفين سينتصر فيه بالنهاية ميول التعريق للعمل الجهادي وولادة داعش. إنّ السلفيّ الجهاديّ العربيّ يقوم على أجندة مخالفة للسلفيّ الجهاديّ العراقيّ. فـ"الأول هو السلفي اليتيم المحارب الذي يقدس الفاعلية لأجلها، فهو سليل سلفية محاربة سلطتها في السلاح وحربها الأيديولوجيّة بلا نهاية، لن تنتهي قبل الظفر النهائي للإسلام (حزبه هو) كما يراه. والثاني -المحارب العراقي- يقدس الدولة لأجلها، فهو سليل دولة مركزية وجزء أساس من بيروقراطيتها ومؤسساتها العسكرية والأمنية، فقد ملكية العراق فقداناً كاوياً" (ص67).

ثانياً: داعش والمجتمع المحلي العراقي أو في توتاليتاريّة العدمي

ثمة ميسم خاص في الحقيقة لداعش لا نجده في باقي التيارات الإسلاميّة الأخرى أكانت سياسية أم عدمية، وهو فهمها العميق لكيفية اشتغال الدولة الحديثة، وذلك نتيجة أنّ قادتها هم بالأساس دولتيون سابقون بالدولة العراقية. ولذلك، فنحن نجد لديهم فهماً عميقاً للدولة وكيفية انبنائها. فداعش تؤسس كما تؤسس كل دولة حديثة ذاتها على العنف الهوويّ بخلاف باقي التيارات الإسلاميّة الأخرى التي تؤسس خطابها وممارساتها وفق المفهوم الإسلامي الكلاسيكي "الفتنة" "ما يميز فكر الدولة الإسلامية بمراحلها الثلاث  الدولة الإسلاميّة في العراق 2006  والدولة الإسلامية في العراق والشام 2013 والدولة الإسلامية 2014 هو خلو المقولات والمصادر الفكرية من مفهوم الجاهلية وحلول مفهوم جديد هو التوحش وفقه الدماء" (ص85).

فمفهوم التوحش عند داعش يقارب مفهوم حالة الفطرة عند هوبز؛ فحالة الفطرة عند هوبز هو حال الحريّة التامة لكل فرد، ومن ثمّ حال الانفلات الذي يستلزم سلطة فوقية لإدارة ذلك الانفلات المنبثق من الحرية التامة المتاحة لكل فرد. يقف مفهوم التوحش بموازاة ذلك وذلك بحسب ما ورد في كتاب "إدارة التوحش" بأننا "نعيش قانون الغاب بصورته البدائية"، وأننا بحاجة اإى سلطة كلية قادرة بالنهاية لإدارة ذلك التوحش. ومن هذا المنطلق، تطرح داعش ذاتها على المجتمع العراقي. ولذلك، فإن "خلاصة الكتابين الفقهيَّيين (فقه الدماء وإدارة التوحش) هي تمجيد العنف الخالص والارتقاء به إلى مرتبة فضيلة الفضائل مثلما هو تمهيد لإنشاء الدولة … وهي في المحصلة الأخيرة أيديولوجيا الهيمنة باسم المقدس" (ص 91).

والمجتمع المتوحش لابد وان يتم معالجته من خلال جنس المرض، فداعش ستحول الحياة اليومية في المناطق التي سيطرت عليها إلى "مستعمرة للعقاب؛ مطوَّقة  بعدد لا يحصى من التحريمات وعدد أكبر من الفروض الملزمة بالتعريف؛ وهي تشبه من بعض الجوانب السجون التي ابتكرتها فرنسا لرمي النفايات البشرية (المجرمين) في جزر نائية لا فرار منها" (ص176).

ثمة أمر هام هنا في علاقة داعش بالمجتمع المحليّ العراقيّ متمثل في العلاقة مع القبيلة. سيتضح اهتمام داعش بذلك الأمر في مظهرين اثنين أ- وجود مسؤول خاص بالعشائر يُدعى عيسى السلامي يتولى ديوان العشائر وهو نظير لمديرية العشائر في المحافظة الرسمية أو مديرية العشائر في وزارة الداخلية الاتحادية.

ب- في أبريل 2015 بعد انكسار في معركة تكريت سيظهر شريط فيديو يُظهِر فيه رجال من عشائر نينوى في لقاء بنادي المهندسين بحي الفيصلية وهم يعلنون بيعتهم للخليفة.

الإشكال أنّ العلاقة التي ستقوم ما بين القبيلة والعشيرة وداعش هي علاقة متوترة؛ فاللقاء الذي تم في نينوى هو على وجه الحقيقة  لم يكن بشيوخ عشائر بل لأفراد وأشخاص ثانويين داخل عشائرهم.

من الأمور المهمة جداً التي يطرحها فالح عبد الجبار هو أن ثمة تضخيماً لدور القبيلة والعشيرة في عراق البعث وعراق ما بعد الاحتلال؛ كل ذلك نابع  من إسقاط مصطلحات الماضي التي حددت البنى الاجتماعيّة والسياسيّة قديماً على ماهية الحاضر ببناها الاجتماعيّة والسياسيّة المغايرة. فالمصطلحات لازالت قائمة من قبيلة وعشيرة وشيوخ ولكن تلك المصطلحات ما عادت تشتغل بصورتها القديمة؛ فثمة انزياح في المضامين البنيوية لتلك الكيانات حوّلتها إلى "شبح هلامي" (ص267).

القبيلة بالأساس كانت تعني "دويلة متحركة" إلى حدود القرن التاسع عشر. ولكن ثمة انزياح خَطِر سيطرأ عليها مع بدايات الإصلاح الإداري والعسكري العثماني؛ حيث محاولة تفتيت الاتحادات الكبرى للقبائل والدفع نحو الاستقرار الزراعي؛ وسيتحول الشيخ إلى متعهد جمع ضرائب زراعية ووكيل عن الدولة. فالشيخ سينزاح عن وظيفته ومهمته الكلاسيكية بمثل تلك الإجراءات الإدارية الجديدة من وضع محارب وزعيم مستقل إلى وكيل للدولة وأداة لتدخلها وتواصلها تحت مظلة قانون "فضّ المنازعات العشائرية".

ولكن مع سقوط الملكية، سيندثر كل ذلك عبر تجريدهم من سلطتهم الاقتصادية (عبر قانون الإصلاح الزراعي عام1959)  وتجريد سلطتهم السياسية (إلغاء مجلسي الأعيان والنواب) وسلطتهم القانونية (إلغاء قانون فض المنازعات العشائرية) وسلطتهم الاجتماعية (عبر التقسيم الإداري الجديد للمناطق وما تبعه من موجات هجرة وتشتت للقبائل بين المحافظات)؛ كل تلك السلطات المُجرّدة ستعمل على تهميش دور القبيلة والعشيرة في دولة العراق ما بعد الاستقلال وسيستمر إلى الآن. كانت هناك انقطاعات في ذلك مثلما حدث  فترة تأسيس الصحوات التي انبثقت نتيجة تصادم سُنيّ-سُنيّ  وأثبتت تلك الصحوات نجاعة كبيرة في الاعتماد على العشيرة وشيوخها، في الدولة الحديثة "الدولة تخترق القبيلة، والقبيلة تخترق الدولة في فعل متبادَل، وإن لم يكن متساوياً بالقوة والعمق" (ص273).

سيزداد التعقيد أمام القبيلة والعشيرة في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، نظراً لحالة التشظي. فثمة "أيديولوجية القاعدة التكفيرية القطيعية (ومن بعدها داعش). وثمة الحزب الإسلامي … وثمة حزب البعث الطامح إلى العودة وثمة التنافس بين هذه القوى الأيديولوجية … وثمة القوى والمصالح المحلية الطامحة إلى الإفادة مما يمكن كسبه في الوضع الجديد(من عقود وتعويضات دنيوية ودخول في أجهزة الحكم)" (ص281).

هذا التشظي الذي سيطرح نفسه أمام القبلية والعشيرة في المجتمع السني سيضع شيوخ القبائل والعشيرة في حيرة كبيرة، يعبر عنها الشيخ زيد المهدي الحسن -وهو شيخ عشيرة البو بالي (تكريت-بيجي)- بقوله "نتوجه إلى الخدمة في الجيش والشرطة يأتي حارث الضاري ويحرم المشاركة؛ ثم يأتينا التكفير من الزرقاوي و(أبو عمر) البغدادي؛ ويعود السياسيون في بغداد إلى النصح بالمشاركة في الجيش فتغلق الحكومة الأبواب أمامنا؛

ثم يعود أبو بكر البغدادي للتكفير وقتل كل مشارك. نحن واقعون بين نارين" (ص14-148). كل ذلك سينتج تبايناً بين القَبَلي والداعشي العدمي التكفيري سبّبها مجالا المصالح الحياتية والمجال الثقافي، حيث "التكفيري يريد حرباً أيديولوجية شاملة بلا نهاية، تنتهي بظفر الإسلام.. أما المجتمع المحلي فيريد تحقيق مطالب محددة وبأساليب متنوعة" (ص286)؛ أساليب ليست عدمية ولكن سياسية كالمشاركة في الحكم والانخراط في الانتخابات وإعادة المطرودين للجيش وإبرام عقود الاعمال والتعويضات، بخلاف أسباب النزاع الأخرى ومنها تجاهل العدمي الداعشي للأعراف والأوساط القبَلية.
 
 
يلخص كل ذلك أحد شيوخ الموصل بقوله "لم يتعلم الدواعش شيئاً من دروس الماضي ولا نسوا ثاراتهم" (ص295).
 
 
الهوامش :
  1. أحمد عاطف أحمد، فتور الشريعة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 (ص25).
  2. ياسين الحاج صالح، أساطير الاخرين: نقد الإسلام المعاصر، دار الساقي، ط1، (ص144).
  3. أحد الأشياء الطريفة الرمزية التي تدعم ذلك تتمثل في المناظرة التي تمت عبر قناة الجزيرة الفضائية بالعام 2007 بين أهم مرجعية سنية في عصر موت الشريعة الشيخ يوسف القرضاوي وبين أحد أهم رجال الدين والسياسة في إيران الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني؛ هذه المناظرة تعطينا نظرة مبدئية عن ذلك الفارق والامتياز الشيعي. فرفسنجاني كان حديثه بالأساس حديث رجل سياسة تدور مشيخته ومرجعيته الدينية في فلكها بخلاف الشيخ يوسف القرضاوي.
  4. فالح عبدالجبار، دولة الخلافة التقدم إلى الماضي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ،ط1(2017)
طوسون البديري

باحث مصري، مشتغل بالفلسفة وتاريخ الشرق الأوسط، وبالمنطقة بعد الربيع العربي.

مواد أخرى لـ طوسون البديري

ذات صلة