الإسلام السياسيّ في دائرة التدبير السلطويّ

08 حزيران/يونيو 2018
 
[هذه هي المادّة الأولى من ملف ينشره معهد العالم عن الإسلام السياسيّ بعد الرّبيع العربيّ، والذي سيتواصل نشره على مدار الأسابيع القادمة]
من حيث ظاهره، يبدو النقاش حول أفول الإسلام السياسي الذي شاع واكتسب زخماً بعد الربيع العربي وكأنما يدفع بحجج جديدة تزعزع مبدأ التفكير في الجملة الإسلامية المعاصرة، ويرسِّخ الثقة بمبدأ القطع وبالتالي الدخول في العصر كما تنافح الجملة الحداثية المناوئة. لنبدو كأنما أمام جملتين غير متقايستين في تعيين ماهِيَّة الواقع والفعالية واستهلاك الطاقة الاجتماعية وتدبير القوة: عبارية محكم تركيبها تلتزم بضوابط العقل المجرد وتعين ماهِيَّة الكلام الحقيقيّ ( الليبرالية السياسية) وأخرى إشارية تتصف بالإضمار والاشتباه وتركيبها اللغوي غير محكم دال على "العقل المستقيل" وقد انغلق على نفسه.

ما نكتشفه عند المعاينة هو أن هذه الثنائيّة تعاود إنتاج تصورات موهومة؛ فما تحجبه هو أنه لطالما كانت الإسلاموية سعياً دؤوباً للتقريب مع الجملة الحديثة من حيث أنها تفكير يعتقد بأن الدين يجب أن يسود الدولة الحديثة ويوجهها.

هذا ما يشير إليه، وإن بشكل متفاوت، طلال أسد ووائل حلاق ورضوان السيد. وبالتالي إن التصورات الإسلاموية عن الدولة هي شريكة نظيرتها الحداثية، حتى وإن دُبجت إسلامياً[1]. فبغض النظر عن توسلاتها اللغوية وانتمائها إلى الفكر الإسلامي قولاً في حين تتحول إلى خطاطة للسلوك الإرادوي فعلاً. كما أصبحت مفردات الجمهورية معترفاً بها داخل حقل التداولية الإسلامية الحديث حيث بات لا يميز بين الجملة الإسلامية والجملة الحديثة بل ويذهب إلى أن الأخيرة موجودة في طي الإسلام. على سبيل المثال لا الحصر نجد أن مفكراً علمانياً أصيلاً مثل عبد الرزاق السنهوري صار مفكراً إسلامياً أصيلاً عند المفكر الإسلامي محمد عمارة[2] الذي استعمل الشريعة الإسلامية كستار لطرح المبادئ القانونية الأوروبية وبالتالي اخضاعها للتكييف القانوني كما لاحظ وبحق غاي بيخور[3].

فضلاً عن ذلك، ونحن في إطار معاينة الواقع، فمن يتابع خطاب الشباب الإسلاموي يلحظ أن توسلاته اللغوية صارت أقرب إلى العقلانية الحديثة[4] وأبعد ما تكون عن النظام التقليدي كفعالية للالتحام بدون سلطة خارجية، بل وقد أصبحوا مناوئين له. فضلاً عن ذلك، إن يكتب داخل المجال التداولي الإسلامي المعاصر يعاود إنتاج متاهات البحث عن هوية قومية جديدة للإسلام أقرب إلى الفكر الغربي البروتستانتي منه إلى الفكر الإسلام التقليدي وإن كان يتلبس لبوساً إسلامياً[5].

 
وعليه، لسنا في الجوهر أمام جملتين غير متقايستين كما تحاول التيارات العلمانية التي تتوسل بمقولة أفول الإسلام السياسي إذ لا تقوم إلا ببث صور موهومة عنه "الإسلام الحديث" تتبوأ نصاب الحكم وتتجاوز تنازع العقائد على غرار محكمة النقد الكانطية.

حيث تبدوان بمثابة فرعين متضائفين لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حاشية العقلانية الحديثة. وها هنا لسنا أمام إسلام تقليدي لا يتقايس أصلاً مع العقلانية الحديثة، وإنما أمام عنصرين ليسا إلاّ لحظتين في سياق تظهر وحدته إذا ما أخذنا ما يتأصلان به كمرجعية للتحليل، أي ما  يتأصلان به من مفاهيم مشتركة تجتمع على مبدأ الأداء السياسي التحكمي في إطار استمرار التمركز والتحكم بما هما ميزتان لاندفاعهما داخل إنتاج معطيات جديدة تتأصل بها يؤدي تحريكها من خارجها إلى السيطرة على الطاقة الاجتماعية.

وذلك لأجل إيجاد الأشياء بمعيار موحد وإنتاج لغات تحكمية في ميادين السياسة والاجتماع تتزين بـ"الواقعية" ومن خلال ميتافيزيقا لا تُقيد الحقيقة بالإحساسي حيث الأصل يبقى الاندفاع إلى التمركز والسيطرة وبالتالي فرض السياق الواحد كما يعاود ظهوره في سياق "الربيع العربي".
 
 وعليه، ما يفعله الإسلامي الحديث هو استكمال الفعالية المتأتية من الإكراه القانوني(تقنين الشريعة) أي أنه لا يتناقض معها ما إن نظرنا إلى الجوهر لا العرض، وبالتالي بتكثيف نصاب بنية السيطرة وتركز الفعالية في حقل المجتمع. الذي يدعي بأنه يعطلها بينا لا يعطلها إلا في مرتبة الادعاء فيما يُكمِّلها في مرتبة الفعالية. وهذا بالضبط ما يفسر تفاقم ظاهرة العنف الذي وصل إلى حدود قصوى بين الإسلاميين والأنظمة في سياق "الربيع العربي"، بسبب التقارب من تركيز الفعالية التحكمية، ومع دنو موقع الجهاز السيادي من الإسلاميين بعدما كانت أسلمة المجتمع أولوية على نصاب السلطة حيث إمكانية التواطؤ على التعايش.     
 
نموذج تفسيري

ومن هذا اللحاظ، لا يخرج الإسلام السياسي على المنظومة السياسية الكلاسيكية ما بعد الاستعمارية. فالنموذج السلطوي المحلي تم إنشاؤه بتعاون النخبة المحلية مع سلطة الغرب سياسياً وبالتواطؤ مع الغرب السلطوي معرفياً. وذلك في إثر فشل الغرب في تحصين سلطته المباشرة على المستعمَرين، فضلاً عن فشله في اشتقاق الفرض السلطوي من المجتمعات المحلية المشربة بالتقاليد "غير المجهزة ثقافياً" للعمل بالمعيار العقلاني الحديث[6]، فاخترع نموذج السلطة بالوكالة لأجل استئناف سيطرته غير المباشرة، ليخرج من مجتمع المستعمَرين ويستمر في تقرير مصير هؤلاء من خلال سلطة تابعة. بعبارة أخرى، لم يخرج الإسلام السياسي على نمط سلطة ما بعد الاستعمار بل أنه انقلاب عليها من الداخل.

 إننا هنا أمام أطروحة تحاجج بأن مساعي الإسلام السياسي لاكتساب الفعالية المتمركزة وكسب موقع بإزاحة خصم سياسي مترسِّخ (نخبة دولة ما بعد الاستعمار) لا يأتي من أجل تجسيد نموذج حكم بديل يقطع مع نموذج الحكم العنيف الذي صدره الغرب السلطوي لهذه المجتمعات، بمقدوره أن يقضي على النموذج السلطوي الوكيل. بل أنه يأتي من أجل استبداله بالهيمنة على أرضه مع حفظ شبكة علاقاته دون أن تمس (السوق والملكية الحديثة والنظام العالمي)، بل أن ما يتعين به هو مقاومته بالدخول في حقله.

وهكذا، لا تخرج تيارات الإسلام الساسي على المنظومة الراسخة بالمعنى السياسي( تركيز الفعالية) وبالمعني الاقتصادي (قيم السوق) واستمرار العمل من داخل اقتصاد- العالم بحيث يظل توازن المنظومة أصلاً قائماً ولا يطاله النقاش سوى كيفية تحقيقه. ولذلك تصّور الخيارات الاقتصادية والسياسية بين الإسلام السياسي والتيارات السياسية الأخرى بمثابة لحظتين متعارضتين في السياق العولمي يصبح مورد إبهام وتغفيل عن آليات تشكل واشتغال هذه القوى المتزاحمة فيما آلياتهما لا تنفك بالحقيقة عن بعضها البعض.

وأمام ضعف أثر الإسلاموية في مواجهة إكراهات الغرب السلطوي من جهة ومواجهة عنف الأنظمة التابعة من جهة أخرى، من خلال نموذج حكم بديل لاسلطوي( اللهم إلا إذا اعتبرنا النموذج الغربي القائم على العنف هو النموذج الوحيد) فقد ارتد هذا العجز إلى عنف داخلي من خلال تشقيق الرؤية الإسلامية الراسخة واجتراح اللغة الصناعية باستبدالها العلامة الطبيعية والتحول من دين انطولوجي إلى دين سياسي يعمل بالفرض السياسي التحكمي كموقع من خلاله يمكن الدخول في شراكة مع الغرب السلطوي في إدارة الاقتصاد السياسي، ومفاوضته على إزاحة النخب القومية العلمانية المتحكمة بمفاصل الاجتماع السياسي في الداخل. وهكذا فإن الإكراه الحديث الجسدي والرمزي، وبالتالي كنخب مهددة، ساهم بدوره في تأطير رؤية الإسلاموية للإسلام[7].

 
تحديث الإسلام

لاحظ طلال أسد أن كلا الفريقين، القوميين العلمانيين والإسلاميين، قد تبنى نظرة دولتية نظرا فيه إلى الشريعة كـ"قانون مقدس" تم تأطيره ولكن ينبغي أن تتم إدارته من خلال مؤسسات الدولة[8]. ويشاطره الرأي وائل حلاق حيث ذهب إلى أن كبار مفكري الإسلاميين قبلوا بالدولة كأمر مفروغ منه كظاهرة تصلح لكل زمان في الوقت الذي يشكك فيها بعض المنظرين. وذهبوا إلى أن مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحق الاقتراع من إنجازات المجتمعات الإسلامية الباكرة[9].

إن حركة الإخوان المسلمين أوضحت أن الإسلام كـ"دين شامل" يتحقق بالدولة وهو أمر تفرضه طبيعة الإسلام نفسها حيث مبدأه لا سلطة لأحد على أحد إلا بالتقوى والفضيلة اللتين لا تعملان بالإكراه الخارجي بل بالتطبع وتنمية الاستعدادات.  بما يعني أن الدولة صارت ضرورة إسلامية. حتى أن حزب النور السلفي في سياق "الربيع العربي" أعلن عن هدفه الأساس في تأسيس دولة قومية ديمقراطية على أساس إسلامية[10]. وهو ما لاحظة أيضاً وإن بشكل متفاوت رضوان السيد بأن الإسلام السياسي يشكل قطيعة مع الإسلام التقليدي.
 
أمام ما تقدم، يثار التساؤل إزاء حقيقة المواجهة بين حركات الإسلام السياسي والأنظمة الحاكمة من جهة ومع الغرب السلطوي من جهة أخرى. وفق المعطيات السالفة فإن الإسلامولوجيا المحدثة كتأطير نظري تشكل الإسلاموية جانيها الحركي، أنجزت مهمة "تحديث الإسلام" وفي اختراع "دين جديد" وإدخال الشريعة في نموذج صوري يعمل بالسيادة فضلاً عن إنتاج معطيات (Datum) التي تعتبر شكلاً نظامياً رمزياً مناسباً لاشتغال آليات السيادة الحديثة للانتقال من القديم إلى الجديد لا تتمايز عن مبدأ إكراه السلطة الحديثة.

يفترض نموذجنا التفسيري بأن المواجهة بين الإسلام السياسي والأنظمة (ومع التيارات السياسية العلمانية) ليست بين قوى ظلامية مقابل أخرى عقلانية. وإن كان يتخذ شكل مواجهة أيديولوجية سياسية فنحن نذهب إلى أن الإسلاموية والأنظمة ليسا إلا مرتبتين لواقع واحد. وأن التنافسات الجيوبولوتيكية هي المحددات الأكثر أهمية فيما يتعلق بحقيقة هذا الصراع، وأن النظام الجيوبولوتيكي العالمي يستخدم كلا الطرفين خلال سعيه إلى توسيع نطاق نفوذه العالمي، وأن دولاً عربية وإقليمية(تركيا وقطر) تحاول أن تستعيد "الربيع العربي" من خلال استخدام ورقة الإسلام السياسي لأجل مفاوضة الغرب على توسيع نفوذها.

لا يسعى الإسلام السياسي إلى تطوير فضائل وتكريس قيم تربوية تجترح الاستقامة أو الانضباط بالدين والتوجه الطبيعي نحو ما فوق الطبيعي كما تقتضي سياسات التقاليد، بل إلى تحويل الإسلام إلى فعالية يستمر بالدولة والضبط الإداري. وبالتالي إزاحة خصم محلي مترسخ واحتلال موقعه من أجل مفاوضة الغرب على شروط الدخول إلى النظام العالمي من خلال مراكمة رأس مال رمزي يتأصل بتشقيق الشريعة واختراع دين جديد يعمل بالفرض الخارجي ومن ثم ضبط المجتمع المحلي بأولوية المصالح القومية الدولاتية.

إنه نسخة دولاتية ليس أكثر تتأصل بأولوية الفعالية السلطوية وإخضاع الدلالة لها كموقع يسمح لها بالدخول في الاقتصاد السياسي العالمي واحتلال موقع فيه بالتموضع في النظام الرأسمالي العام وليس تاطيراً انعتاقياً منه بنحت موقع ارتكاز معرفي مادي خارج النظام الامبريالي وخارج النظم الدولاتية التابعة. وذلك في الوقت الذي تتحول فيه الحداثة الرأسمالية إلى أشكال مطورة من السوق وهي أخطر إذ  تستدعي أشكال من العنف المطورة وأن ما يصيبنا منها يأتي دائماً مضاعفاً.

هذه الأطروحة تسمح لنا بمعاودة النظر في أطروحة "فشل الإسلام السياسي" وتحريرها وبالتالي موضعتها في سياق يسمح لنا باستئناف النظر وأخذ البحث إلى جهة أخرى. إن تحديث الإسلام من الداخل يكون فعالاً أكثر مما يمكن إنجازه من الخارج. فالإسلاموية وضعت العلمنة على جدول أعمال الإسلام، وهذا بالضبط ما يجعلها في حقيقة الأمر إسلاماً سياساً دون تحسس من المصطلح. فالسلطة من هذا اللحاظ تعتبر مصدراً في الإسلام مما يعاكس الفهم التقليدي، وبالتالي تحويل السياسية إلى جهاز يعمل بدون توسطات.

ولأنها صيغة محدثة قد انجزت بقدر ما[11] وبالتالي تكون رأس مال رمزي يمكن استخدامه بنجاعة في منازعة نخبة الدولة الوطنية ومفاوضة الغرب بصيغة فعالة قادرة على التحكم والسيطرة بنجاعة أكثر من النخب القومية العلمانية وذلك من خلال تقديم صورة للإسلام يستطيع من خلالها العيش في نظام العالم كما هو بمقدوره التكيف مع كل شيء ابتداء من السوق وحقوق الإنسان والليبرالية وليس انتهاء بالتبعية، وبالتالي لديه مطواعية عالية لمعاودة التشكيل بحسب السياق دون أن يرتكز إلى موقع ثابت يتشكل بحسبه. وبهذا المعنى فالإسلام السياسي يعني فعلياً الخضوع لا التحرر وإن اتخذ صورياً طابعاً كفاحياً فهو لتحقيق الغرض الذي ذكرته في الأعلى وبالتالي التواطؤ مع ما يفترض به مواجهته.

 من منظور تاريخي، كان التعايش يتعين على قاعدة أن تيارات الإسلام السياسي خارج فكرة الوطنية أو قوى عبر- وطنية معطوفاً على انهمام إسلامي بأولوية أسلمة المجتمع على النضال السياسي وحتى على مقاومة الاحتلال كما هي حالة الإخوان المسلمين في فلسطين كما سيأتي بيانه. ومواقفهم المضادة لفكرة الدولة الوطنية كانت إحدى المفاعيل في معاودة إنتاج الدولة لسرديتها الوطنية. يمكن ملاحظة أن اشتداد التنازع بين الإسلاميين والأنظمة يرتبط باتجاه الفعالية فكلما دنت الدولة إليهم أشتد النزاع وتحول إلى تصادم جسدي( ما حدث في رابعة مثالاً).

  وفي سياق الربيع العربي، ومنذ سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وحركات الإسلام السياسي في المنطقة تعاود التشكيل بحسب السياق الضاغط. إذ تنصلت من ارتباطها بحركة الإخوان المسلمين، وأكدت في المقابل على توطين نفسها وعلى جذورها المحلية ونفي انتمائها العابر للدولة القطرية  كسبيل للخروج من ورطة الضغوط الإقليمية وتهمة الإرهاب. فقد أكدت الحركة الإسلامية في الأردن على جذورها الوطني ونفت أي تبعية أو ارتباط بإسلام سياسي أممي. وأما الحركة الإسلامية في تونس فقد نحت الاتجاه ذاته عندما أكدت أنها تعمل ضمن قانون الأحزاب في تونس ووفق ما تمليه عليها مؤسساته ولا تتبع لأي طرف خارج البلاد لأجل التنصل من الارتباط بالتنظيم الدولي للإخوان في محاولة للظهور بصورة تضمن للنهضة التونسية بقيادة الغنوشي من لعب أداور جديد. 

 والأمر طاول أيضاً حركة حماس الفلسطينية التي أكدت تحاشياً لضغوط النظام المصري، بأنها ترتبط "فكرياً مع الإخوان المسلمين، ولكن من الناحية الهرمية والتنظيمية والبنيوية لا توجد أي صلة بين حماس وبين الإخوان المسلمين في مصر. وأكدت بأنها حركة فلسطينية خالصة لا تعمل من أجل أي منظمة أو حركة وراحت لفكرة المصالحة الوطنية مع السلطة في رام الله.

وعليه، شتّان ما بين الخطاب الراهن لحركات الإسلام السياسي وخطابها قبل الربيع العربي، بشأن هويتها السياسية. فهي تجسّد الآن خطاب الهوية الوطنية بينما كانت قبل الأزمة التي عاشتها تلك الحركات بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، تميل نحو الخطاب الأممي. وبذا تكتسب الدولة الوطنية قوة دفع مما يفترض بأنه يمثل نقيضها الأممي. بمعنى أنه صار هناك فصل بين السياسي الوطني الذي يتم الالتزام بالولاء له، وبين المحتوى الإسلامي دون تخطي الحدود الوطنية.

وإن كان يبدو بأنه ناتج عن ضغوط الواقع السياسي الإقليمي الراهنة إلا أنه يعبر عن تحولات عميقة سابقة في المقاربة النظرية للإسلام السياسي بالاتكاء على ما أفرزته الإسلامولوجيا المحدثة التي توصلت إلى أربع صيغ صورية لاشتقاق الدولة من الإسلام، وتوسل الانضباط بالمعيار العقلاني الذي يحصر فعل الدولة في مجال الممكن بما يقود إلى استبعاد العلاقات الفعلية (أو الواجب) واستبدال التداول الطبيعي بتداول قولي مسلوب الفعالية يستدخل اللحمة الاجتماعية بعد إضعافها في جملة السيادة( أنا أقول فافعلوا) وبالتالي تصير الإسلاموية حكم بالفرض والسياسة والفقه أصبحا فنوناً لتحقيق القوة القصوى يستمران بالحكم بشكل صافي لأسباب نفعية.  ويمكن حصر هذه الصيغ على النحو التالي:
  1. التحول من الهوية إلى التصوير: من خلال فصل الدين عن التدين والإيمان عن الممارسة أو التجسد بما هو استحضار لأشياء عديدة (اصطناع المجال العالم) وهي أطروحة يمثلها القاضي عبد الجواد ياسين.
  2. التأصيل بالقاعدة القانونية: من خلال تقنين الشريعة ومعاودة صياغتها بلغة حديثة بتحويلها إلى لغة القانون التدخلي كأداة اختراق سلطوية وليس كآلية لتقييد السلطة[12](اصطناع تركيز الفعالية والأداء السياسي التحكمي) وهي أطروحة بدأت مع مشروع الأزهر عام 1978، واُستكملت بعدها في مشروع تقنين الشريعة (طارق البشري، صوفي أبو طالب، إبراهيم البيومي غانم).

  3. تواطؤ الوجود: من خلال مقولة "إرادة الأمة هي تعبير عن إرادة الله ذاته" ( اصطناع الديمقراطية)، يمثلها عبد الرزاق السنهوري، وبدرجة أقل المفكر يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي.

  4. الفعالية الجهازية: الانتقال من الدعوة إلى الحزب (اصطناع حزب الدولة) يمثلها الإخوان المسلمين، والنهضة التونسية.
الإسلاموية في السياق الفلسطيني

يتمثل المثال الصارخ على فرضيتنا التأسيسية في جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. من منظور تاريخي لطالما كانت الجماعة تؤجل العمل النضالي بذريعة أولوية أسلمة المجتمع على مقاومة الاحتلال. وكانت تبدي استعداداً على مفاوضة سلطة الاحتلال، ولأن الأخير لم يجد لديها شيئاً ففضل عليها التفاوض مع منظمة التحرير. وعندما تحولت الأخيرة إلى سلطة حكم ذاتي بالتفاوض مع سلطة الاحتلال راحت الجماعة إلى خيار المقاومة وشيئاً فشيئاً انتهت إلى صيغة جهازية مقاتلة بإنشاء ذراع المقاومة، حركة المقاومة الإسلامية(حماس). وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، عاودت حركة حماس التشكل بحسب السياق الطارئ فكان دخولها في الانتخابات وفوزها بالسلطة.

في صيرورة ذلك حدث الاقتتال الداخلي مع السلطة الفلسطينية عندما استولت حماس على قطاع غزة عام 2007 بالقوة العسكرية. ومذاك دخلت القضية الفلسطينية في منعطف خطير بسبب الانقسام بين المتحدثين باسمها ما زال يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني. فرض النظام الدولي حصاراً قاسياً على قطاع غزة. في إثره ما تزال حركة حماس التي آلت إليها السلطة في غزة إلى تقديم تنازلات من أجل نيل الاعتراف الدولي بحكمها. فضلاً عن اتكائها على دول عربية وإقليمية لكسر الحصار فرفعت صور الزعماء العرب والإقليميين في ميادين غزة وكانت تزيلها بحسب دعمهم لها.

وعلى لسان قادتها فقد أشاحت حركة حماس عن نواياها في حصولها على الشرعية الدولية بعدما حصلت على الشرعية الداخلية كما جاء على ألسنة قيادتها. وقد نجحت الحركة في جلب إسرائيل إلى طاولة المفاوضات عبر الوسيط المصري حول قضايا تمس الطرفين. كما غيرت وثيقتها السياسية من أجل إقناع الغرب بحكمها لقطاع غزة. وعلى لسان فوزي برهوم، المتحدث باسم حماس، أكد خلال مايو 2017 في قطر أن "الوثيقة تتيح لنا فرصة التواصل مع العالم الخارجي. رسالتنا هي أن حماس ليست راديكالية، نحن حركة براغماتية وحضارية. نحن لا نكره اليهود، إننا نقاتل فقط الذين يحتلون أراضينا ويقتلون شعبنا"[13]. ما زالت الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان حركة حماس في أي مفاوضات رغم وثيقتها الجديدة. باتت العقيدة المهيمنة على حماس هي حكم غزة، ولأن حكمها غير مكتمل أصبح هاجسها مقصوراً على تحويل هذا الحكم غير المكتمل إلى حكم مكتمل.

وهي من أجل ذلك تقدم صيغ مختلفة أملاً بأن يقبلها العالم مثل الانتقال إلى المقاومة اللاعنفية. كما رفعت صوراً لغاندي ومارتن لوثر كنج ومانديلا في مهرجاناتها عند افتتاح مسيرة العودة على الحدود الشرقية، وعلى مقربة من السياج الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل بهدف إقناع العالم بها وكسر الحصار وفتح الطريق لمفاوضات مع الغرب، كإشارة إلى أن حماس جاهزة لفتح غزة أمام الحل الإنساني بعد سنوات الانقسام التي اقتصر فيها كفاح حماس على كسر الحصار عن غزة والتحدث باسم غزة فقط. فحماس أصبحت لا ترى الدنيا إلا من خلال ثقب إبرة غزة[14].

وصارت قيادات حماس يوجهون خطابهم إلى الغرب بأكثر مما يوجهونه إلى قومهم. هكذا وضعت غزة في سياق اللاحل في إطار أوسلو واللاحل في إطار مشروع المقاومة، وأن البديل الوحيد المهجوسة به هو بدائل من أجل تكريس حكمها وتحويلها إلى حكم مكتمل بالتفاوض على شروطه مع الغرب السلطوي.

ومن حين لآخر تحاول حماس أن تستخدم الناس لأجل تجريب اختبارات بغية كسر الحصار وكسب التعاطف الدولي معها. في المقابل تتعمد حماس بعدم مس أصول المشكلة المتمثلة في حكمها وفي تكريس سلطتها على قطاع غزة المحاصر حيث لا تملك منها شيئاً، وتحولها من حركة مقاومة إلى سلطة تحت محراب الاحتلال لتكرر بذلك خيبات حركة التحرر الفلسطينية التي ارتبطت بأشياء كثيرة من جهاز مصالح وسمسرة وشركات ومكاسب مالية[15] وتنسيق مع سلطة الاحتلال في الوقت الذي كان فيه المجتمع الفلسطيني تحت الاستعمار وقبل مجيء السلطة يحول دون اغتناء طرف على حساب الطرف الآخر.

وبالتالي إدخال القضية الفلسطينية في انهيار مستمر لا حد له مع غياب ضوابط للأفعال السياسية. لتمسي الحركة الوطنية وحركة حماس استمراراً للنظام العربي لا تتناقض معه ولا تختلف عنه. لتدخل بذلك القضية الفلسطينية في مرحلة خراب معمم حيث السلطة بجناحيها، سلطة رام الله وسلطة حماس في غزة، بالإضافة إلى الفصائل الفلسطينية داخله فيه.
 

من كل ما ذكرته في الأعلى، تبدو حماس شكل من المقاومة استمر يعمل على أرضية أوسلو حيث انتهت إلى سلطة مكبلة ومنقوصة لتحكم جزء صغير من فلسطين التاريخية محاصر بالجغرافيا والسياسية، لها مكاسبها ومصالحها ومغانمها في الوقت الذي يعتبر خطابها أكثر ما يُدبج كلاماً عن الاستشهاد. وبما هو وضع يسمح باستكمال أوسلو إلى أن تضرب إسرائيل ضربتها الأخيرة[16] حيث وضعت غزة في حالة لا تقدر فيها على أن تقاوم فعلياً.
 
 خاتمة

 لنكثف تصورنا في هذه الخلاصة. إن ما فشل فيه الإسلام السياسي هو تدعيم ممانعة سلطة الفرض في مواجهة الغرب السلطوي من جهة ومواجهة سلطته التابعة من جهة أخرى. في مقابل اندفاع الإسلاموية إلى مركزة السلطة وتركّز الفعالية السياسية. وبالتالي فشلها في بناء موقع ثالث مستقل يمكنها من هذه المواجهة ويحصن الثورة ضد الاستبداد من الوقوع في الشللية حيث كل طرف يؤجر نفسه لدولة ما يُطالبها بالتمويل كما حصل في سياق "الربيع العربي".

فشل في تملك أي قدرة مستقلة للتصدي للوجهة التسلطية التي عاودت الظهور في سياق "الربيع العربي". فشل في رهن اعتدال القوة الاجتماعية والاقتصادية بإيجاد نموذج لغوي يتأسس على واقع ثابت بالضرورة لا ينيط وضع قواعده بأي مرجعية مركزية متعينة تعمل بالتصوير. فشل الإسلام السياسي في إحياء التوسطات بين الناس والسلطة، عوض استكماله تفكيك نسيج المادة الاجتماعية وتبديد مصادر طاقتها بنماذج صورية إسلاموية. فشل الإسلام السياسي في تحرير الدلالة من اقفالات جهاز السيطرة القابض لتبرز بما هي نفس اعتدال القوة. فشل الإسلام السياسي في الحؤول دون تَفَّلت القوة الظاغية وممانعة تحويل الدولة التحديثية إلى مكان للفعالية ومصدر للسلطة.

فشل في فتح منافذ للناس في موجهة السوق بالمعنى الذي يتكلم عنه طلال أسد أي بما هو مكان لتعريف ما هو إنساني وما هو مقاصد للإنية الإنسانية يحل مكان القانون الذي يتراجع في ظل العولمة إذ يتحول إلى قوة متوحشة يفرض خياراً أحادياً على الناس يجبرهم إما الدخول فيه وإما أن السوق ليس بحاجة لهم. فشل الإسلام السياسي في تحصين الحياة اليومية من التوحش من تمدد أحزمة البؤس ومدن الصفيح بسبب انشغاله بأولوية الانتقال الديمقراطي على الحياة اليومية. فشلت في استخلاص شكل معرفي لا يخضع للنظام السائد كرافعة في مشروع تحرري والانعتاق الإنساني من الظلم والاستغلال. في المقابل، ما نجح فيه الإسلام السياسي هو تشقيق الهوية واستكمال اختراقات التحديث المرتبط بالمشروع السلطوي الحديث. إن هذا الفشل ليس مقصوراً على الإسلام السياسي بل يطاول التيارات الأخرى المناوئة.

فضلاً عن ذلك، إن الإسلاموية بكافة ابتداء من إيران وحزب الله ومروراً بالإخوان المسلمين وحركة حماس والنهضة التونسية، تتمثل عقدتهم التاريخية في مفاوضة الغرب لنزع الاعتراف بها والاندراج في النظام. والخلاف بينهم بالعرض لا بالذات. فمنهم من يريد مفاوضة الغرب بندية وانتزاع موقع الشريك، ومنهم من يريد مفاوضته من أجل إحراز موقع داخل مؤسسات الدولة بالمغالبة أو بالمشاركة مع النخبة المحلية المتنفذة، ومنهم من يريد هذه المفاوضات من أجل تحويل حكم منقوص إلى حكم مكتمل وتكريس شرعية حكمها في الداخل. وعليه لا يملك الإسلام السياسي أي قدرة مستقلة للتصدي للوجهة التسلطية بوجيهيها الغربي السلطوي والوكلاء المحللين، بل تحولت هي نفسها إلى واجهة تسلطية تضاف إلى أخواتها السلطويات فكان الفشل حصادها. 

الهوامش:

[1] كريم محمد: نقد النقد: "الدولة المستحيلة" ومأزق الفهم الحداثي، متاح على الرابط.
[2] محمد عمارة، الدكتور عبد الرزاق السنهوري: إسلامية الدولة والمدنية والقانون، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 2009.
[3] غاي بيخور، مدونة السنهوري القانونية: نشوء القانون المدني العربي المعاصر، ترجمة رشا جمال، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2009، ص63.
[4] حول بزوغ شباب إسلامي تجديدي أنظر: ساري حنفي، التجديد الإسلامي من الداخل، مجلة إضافات، العددان 38- 39، بيروت، صيف 2017.
[5] راجع مثلاً، محمد المختار الشنقيطي، أُمـة النخلتين: الهوية العربية ظاهرةً  سياقيةً، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2018.
[6] بارثا تشترجي، الفكر القومي والعالم الاستعماري: خطاب اشتقاقي، ترجمة عدنان حسن، بيروت، 2013.
[7] أشير هنا إلى حوار مع شاب إسلاموي يقترح حلاً للتخلص من عنف الدولة تجاه الجماعات الأهلية، فهو يرى ضرورة أن تقوم هذه الجماعات التي تعمل بصيغ التقاليد العرفية بالمعنى الذي قصده طلال أسد بتعطيل نفسها وتفكيك أشكال شرعيتها  وإحلال آمرية مركزية صارمة وبالتالي توسيع الصيغ القانونية التعويضية كي تتخلص نهائياً من استمرار عنف الدولة تجاهها. ونحن نشير هنا، للمفارقة، إلى أن مؤسس علم الاجتماع دوركايم أشغل نفسه بكيفية ملأ الفراغ الذي تركه اندثار الأصناف المهنية (Corporation ) بما هي أشكال ضرورية للتوسط بين السلطة والمجتمع تقوم على الاعتراف بمرجعيات متعددة لفعالية الكلام، والذي نظر دوركايم نفسه لهذا الاندثار قد عاود في كتاباته إلى العمل على استعادتها من خلال دفاعه عن الأصناف المهنية، وهو ما نجده أيضا عن فيبر في استعادة المثل العليا القديمة والذي يبلغ عند بورديو أعلى درجاته في ممانعته النفعية، وإن كانت هذه الاستعادة للحمة القديمة بأشكال مطورة في قلب الدولة والمجال العام.
[8] طلال أسد، تشكيلات العلماني في المسيحية والحداثة والإسلام، ترجمة محمد العربي، جداول، لبنان، 2017، ص274.
[9] وائل حلاقة، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 2014، ص21.
[10] «النور» أول حزب سلفي يتم تأسيسه في مصر يضم مسيحيين، متاح على الرابط.
[11] رغم تعثرها الذي يفتح على معاودة السقوط في متاهات البحث عن هوية كما يعلمنا الدرس المعرفي في التاريخ الإسلامي بفشل المحاولات، التي تبقى غير مكتملة، في اشتقاق نموذج تحكمي من التقاليد( ابن سينا، ابن تيمية، ابن رشد).
[12] بحسب جورجو أغامبن لا يشكل القانون حقل تواصل بين السلطة والجماعة، وذلك لأن السلطة التي تحتكر السيادة تبقى قادرة على التفلت منه كما في حالة الاستثناء. فالسلطة والحالة هذه تقيد الأفراد بالقانون وتحرر نفسها من هذه القيود.
[14] أسامة أبو ارشيد، قطاع غزة والمشروع الوطني الفلسطيني، انظر الرابط
[15] جدير بالذكر أن تجربة الإدارات الذاتية في الشرق الأوسط أثبتت فشلها إذ وقعت في الفساد والنهب والاغتناء على حساب بقية المجتمع . ونحن نعتبر أن الدول الشرق أوسطية هي شكل مطور من أشكال الإدارة الذاتية التي اخترعها الغرب السلطوي كتدابر اصطناعية لاستئناف سيطرته من خلال توسله بالمبدأ الاستعماري القديم " تقرير المصير" ما إن نظرنا من منهج النظام العالمي الاستعماري الذي بقيّ ممسكاً بتلابيبها.
[16] كان يمكن لجناحي السلطة في الضفة وقطاع غزة، أن يستبقا هذه الضربة بأن يحلا نفسيهما والعودة إلى المقاومة الشعبية بكافة أشكالها. لكن هذا ما لا تفكرا به.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.