Print this page

الوعد الفدرالي في الشرق الأوسط: الدّرس العراقيّ والمستقبل السوريّ

02 آذار/مارس 2018
 
في غضون موجة التغيير والصراع في الشرق الأوسط، راح يتجدد النقاش حول النموذج الفدراليّ كنظام حكم بدأ يحتل الصدارة كتجديد للحاضر ووعد للمستقبل حيال النظم السياسية التي تعيش راهناً الوضع المهتريء والنخر الذي أصاب هيئاتها الاجتماعية المركبة. في السياق الثوري السوري الراهن، يقترح البعض نظام حكم فدرالي لسورية الجديدة[1].
وأما في لبنان، فقد عاد الحديث إلى اعتماد الصيغة الفدرالية[2] إلى التداول في الفترة الأخيرة[3]. بيد أن هذا كله يتجاهل ما تكشفت عنه وقائع النظم الفدرالية في تطبيقاتها العملية؛ إذ ما تزال تكابد مشقة عدم استقرار هيكلي في الشرق الأوسط. وللمرء أن يتشكك في إمكانية نجاحها في سورية، حيث تعتبر ليبيا والعراق بشكل خاص[4] مثالاً صارخاً على مدى الفشل الذي تسبب به هذا النظام؛ إذ أدى لوجود حكومات متعددة متصارعة فيما بينها تتخذ قرارات متضاربة، ويُدعم كلٌّ منها أطرافاً خارجية.

 تستحضر الصيغة الفدرالية كوعد للمستقبل لمعاجلة الإشكاليات القومية والدينية أو الطائفية التي تميز المشرق العربي. في الواقع، تُظهر التجربة أن الميول الانفصالية القوية والتاريخية في المشرق العربي تظل صعبة التحقق، ولم تمكن نفسها عملياً، وأن مقترح حكم فدرالي يعالج مشكلات الهيئة الاجتماعية المركبة والانقسامات التي تسم المشرق العربي بدوره لم يحقق وعوده في استقرار البلدان التي أخذت به مثلما هو الحال في العراق وليبيا، وكذلك الحال في لبنان إذا ما اعتبرنا نظام حكمه أقرب إلى صيغة من "الفدرالية الطائفية" (راجع هامش 2)؛ إذ كشفت عن مآلات مجحفة حيث لم تستقر بشكل نهائي، وأن ثمة غلبة من جانب طائفة ما تزال تُحدث نزاعاً داخلياً في لبنان[5]. ومع ذلك غالباً ما يتم تجاهل هذه الحقيقة.

سوف نعمد إلى توصيف مكثف لوضع الفدرالية في العراق بشكل خاص: الديناميات الجديدة، القيود والفرص، الممارسة السياسية، السياسات الإثنية، وما يخبرنا به النموذج الفدرالي في اشتغاله الميداني من تقنيات وآليات وإجراءات في إدارته للصراعات الإثنية، وعن مأسستها وتكريس الصراعات الحديثة المتأصلة في المجتمع العراقي، واندفاعه لخلق صراعات أخرى جديدة فاقمت من أزمة النموذج. ومن ثمّ، ننتقل إلى السياق الثوري السوريّ وكيف أن المتخيل الفدرالي داعب أفئدة وأحلام بعض القوى فأفرز نتائج خطرة وممارسات استقطابية وتطهيرية بغية فتح فرص جديدة لتطبيق النموذج الفدرالي في سورية عندما تفرض "التسوية التاريخية" نفسها.
 
العراق ووعود الفدراليّة  
 
استعانت الولايات المتحدة الأمريكية إبان احتلالها العراق 2003 لإعداد دستور ينظم العلاقات الهوياتية المركبة بأكثر الخبراء العالميين في مجال الدسترة شهرةً[6]، فكان نظام حكم فدرالي هو المقترح الممكن الذي أخذ به الدستور الجديد عام 2005. السرديّة التي هيمنت لتبرير الصيغة الفدرالية التي استند إليها المطالبون لتشمل كل أنحاء العراق، هي أن النظام الفيدراليّ شائع في عدد مهم من الدول في العالم، وأن النظام المقترح للدستور العراقي يحاكي هذه التجارب العالمية، وأن الدول التي اعتمدت النظام الفيدرالي تمكنت من إشاعة الديمقراطية ومنع الاستبداد، وحققت لشعوبها التقدم والرفاهية والحياة الكريمة، وهو ما يستحقه الشعب العراقي بجدارة[7].

منحَ النظام الجديد كردستان العراق حكماً ذاتياً في إطار الفدرالية العراقية تطبيقاً للمادة الرابعة من الدستور العراقي: "نظام الحكم في العراق جمهوريّ اتحاديّ فدراليّ ديمقراطيّ تعدديّ، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحليّة". وأوردت المادة (53) من الدستور بأنه "يعترف بحكومة إقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للأراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 مارس/آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك وديالى ونينوى"[8].

 إن الاستفتاء على استقلال كردستان العراق الذي جرى في يوم 25 سبتمبر/أيلول 2017، في أربع محافظات بالإقليم، هي أربيل ودهوك والسليمانية وحلبجة، فضلاً عن محافظة كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها بين الإقليم والحكومة الاتحادية في بغداد، أظهر أن الدستور الفدرالي لم يحقق وعده في الاجماع الوطني المستقر. فضلاً عن ذلك فقد كشف عن نوايا مضمرة. ففي تصريح لبارزاني خلال مؤتمر صحفي بأربيل قبل يوم من الاستفتاء قال: "لن نعود مطلقاً إلى شراكة فاشلة مع بغداد"، مضيفاً أن العراق أصبح "دولة دينية طائفية" وليس دولة ديمقراطية[9] بحسب تعبيره.

وبعد إجراء الاستفتاء، دخلت حكومة بغداد في معركة مع البارزاني على إثرها استعادة كركوك تحت مظلة الحكومة المركزية في بغداد واُفشلت المحاولة الانفصالية لأكراد العراق وإحباط إقامة دولة خاصة بهم، بتعاون من تركيا وإيران وبتواطؤ أمريكي. والذي كشف عن حالة التشرذم الكردي فضلاً عن خسارة جميع الأراضي التي ادعوا أحقيتهم فيها وتنازعوا عليها مع الحكومة العراقية بما في ذلك محافظة كركوك عندما فضلاً عن خسارة تلك الأراضي ونصف الإنتاج النفطي الذي كانت تؤمنه حقول كركوك لحكومة كردستان العراق الذي من دونه لا يملك أكراد العراق ثروة اقتصادية يمكنهم الاعتماد عليها لبناء دولتهم المستقلة[10].   
 
 
تعكس هذه الصيرورة فشل وعود الدستور الفدرالي في العراق، وما تزال الحالة السياسية الفدرالية هناك غير مستقرة فلم تتمكن من إدارة التعدد السياسي والإداري، وصارت الآن مضمونة بالغلبة، وليست تعبيراً عن رضى سياسي يشمل المكونات العراقية المختلفة، فيما الشعور بالغلبة لا يعطي فرصة للتعدد أو اللامركزية الموسعة. وعلى عكس من تلك الوعود الفدرالية فقد كشفت التجربة بأن الفدرالية كرست الانقسام الذي يفترض بها تفاديه نحو اجماع وطني عام، فكانت استيعابية عبر القوة وسيطرتها إكراهية وطوباوية فلم يكن بمقدورها مواجهة النزاعات الانفصالية ولا التحدي الإثني الذي أصبح معها أكثر قوة من ذي قبل. وأن تقاسم السلطة وفق الصيغة الفدرالية لم يجعل من الدولة كحكم محايد لمزاعم المجتمع المتنافسة، بل كمدافع عن برنامج العمل الطائفية والإثنية مما فاقم من احتمال وقوع الصراع والسلطوية التي تجاهد قوى خارجية دولية وإقليمية الحيلولة دون انتقاله إلى حرب أهلية تودي إلى تفكيك العراق، بعد إسهام هذه القوى نفسها في تحطيم الدولة العراقية  وبالتالي تطييفها وبخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وإيران الخامنئية لتأكيد سيطرتها وسلطتها من خلال تحقيق مكاسب خارج أراضيها لتثبيت وضعها داخلياً. 
 
توضيح منهجي
 
بوسع المرء أن يجادل بأن نظاماً فدرالياً في المجتمعات المتعددة الإثنية والمنقسمة[11] ليست هي الطريقة الأمثل التي تسوغ بها إدارة الحكم من شأنها أن تتجاوز الهويات المختلفة المبنية على الفروقات الأثنية أو الطبقية أو الطائفية أو القومية، وأن تستبدل الرؤى المتصارعة بخبرة موحدة تحت مظلة الفدرالية. وفي أحد المعاني المهمة، فإن هذا التوسط الفدرالي المتجاوز يفترض مسبقاً الأمة الحديثة حيث المواطنة المبدأ الأساسي للهوية. غير أنني لست مهتماً ههنا بسؤال لماذا تفشل وكيف يمكن أن تستقر الفدرالية في الشرق الأوسط، وما إذا كانت تتوفر على مقولة عامة كبرى يندرج تحتها قواعد صغرى متعددة.

أريد ببساطة أن أخرج من النقاش المعياري حول الشروط المسبقة للحكم الفدرالي إلى لحاظ الواقع. إنني هنا مهتم أساساً بتجلية تجربة الفدراليات في المشرق العربي وفي العراق تحديداً، وكيف أن البلدان التي جُربت عليها أفرزت مجموعة متنوعة من الظواهر السياسية ناتجة عن فشل إدارة العلاقة بين المجموعات الاجتماعية والدولة وفق المقترح الفدرالي، لا تقل خطورة عن أصل المشكلة التي استرعت الحل الإداري القانوني الفدرالي، بل وأخطر.

 أجادل بأن الدول التي أخذت بالفدرالية كالعراق دخلت فعلياً في سلسلة متتالية متواصلة ومتداخلة من المشكلات المتولدة عن أصل الحكم الفدرالي، وعجز الأخير عن مواجهتها بينما يمضى قدماً في إعادة إنتاجها ويستخدم التهديد حيال المجموعات الاجتماعية وبالتالي مضاعفة الاستياء منه. وأنا هنا لا أحاول أن أنفي بأن لتلك المشكلات جذورها التاريخية السابقة على نظام الحكم الفدرالي والدور الذي قامت به السياسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وإنما ما أقصده أن الحكم الفدرالي أنتج مشكلات خاصه به، وكرس مشكلات أخرى ورثها عن الحقبة السابقة بدل حلها، وسرع من ديناميات إقصائية تصل إلى حد التطهير الممنهجة. وأريد أن أجادل بأن الفدرالية في المجتمعات المركبة الهوية كالعراق صار لها منطقها الخاص يُعرف من خلال المشكلات الخاصة به التي أفرزها وجودها لتكون هي نفسها آلية لصنع المشكلات.

أريد أن أشدد على هذه النقطة؛ أي أن الفدرالية خلقت موقعاً جديداً لا يعيد إنتاج مشكلات سابقة عليه فحسب بل ينتج مشكلات جديدة لم تكن سابقاً لتبدو الفدرالية "المانيفستو" الخاص لتكريس الانفصالية لا حلاً لها حسب وعده. إن الربط بين الفدرالية والحل يبدو قناعاً يخفي تحته مشكلات شديدة التعقيد تظهر مستقبلاً كما أبانت التجربة العراقية. وما يبدو حلاً اليوم لمشكلة الاندماج الوطني يصير بعد حينٍ مع الحكم الفدرالي مشكلاتٍ تمعن بالمزيد من تفكيك ما هو مشترك باقٍ. وهو بالتالي يمثل عنفاً رمزياً يمكن أن يتحول إلى حرب فعلية متى يتاح لها الفرصة المناسبة.

وعليه، أناقش المقولات التالية:

أود أن أشير إلى أن هذه المقولات متداخلة وليست منفصلة، وتنطلق من مقولة عامة، وهي: أن الفدرالية في مجتمع مركب الهوية تؤسس لوضع اجتماع سياسي تكون حدوده ملتبسة وعلائقه متوترة وأفقه عنيف. وكونها تؤسس لذاتيات أثنية فإنها تستحضر مصالحها ومطالبها وادعاءاتها وقلقها وطموحاتها الإثنية عند ظهورها على الصعيد السياسي. يتوفر لها فرصة لتكريس الانقسامات الإثنية تنتج سياسات متطرفة مثل الطرد والإبادة والاستيعاب القسري وأشكال أخرى من التطبيع القسري ومناورات أحادية الجانب. لتكرس هذه السياسات الإثنية حيال الدولة أزمة النموذج الفدرالي. يتفرع عن ذلك المقولات التالية:

  1. تنتج الفدرالية في المجتمع المركب الهوية والمنقسم في آن، مسارين متعاكسين رأسياً وأفقياً؛ رأسياً تصير الفدرالية قناة الدولة إذ تخلق مساحات جديدة لتحقيق ذاتها كفاعلية لإنتاج القوة القسرية والاستيعاب الإكراهي والعنف الرمزي( الافتراض بأنها عامل وقاية من الصراعات الأهلية مثلاً[12])؛ وأفقياً تُنشئ كينونات ذاتيات لمجموعات قومية أو طائفية أو لغوية معرضة بشكل قوي للتوكيد الإثني المسيس. وتكون العلاقة بين المسارين مرتابة، وحدود علاقاتها مع الدولة ملتبسة ومتوترة تصل أحياناً إلى عنف مستباح من جانب الدولة، وإلى عنف أهلي بين المجموعات الإثنية؛
  2. ويترتب على ذلك مشكلة خطيرة وعسيرة: تكريس ولاءات متنافسة ضمن "النظام العام" نفسه، وعلى مستوى التكامل ذاته. وهنا ولاءات متنافسة كثيرة، فمشاعر الولاء ترتكز إلى العرق واللغة والطائفة، والصراعات بينها لا تحصل ضمن مجتمع نهائي مقبول تماماً إلى حد ما، بل الحاصل أنها تضع سيادة "النظام العام الفدرالي" موضع الشك والتساؤل، وتستثمر في كينونتها الذاتية العصبوية كتصنيف أنثروبولوجي يعترف به الحكم الفدرالي، في المزيد من التطهير الإثني والتغيير السكاني وبالتالي إثارة الحقد والنعرات العصبوية الضيقة وصراعات لإقامة حدود جديدة متجانسة داخلياً.

  3. من المشكوك فيه أن تمكِّن الفدرالية المجتمع من مواجهة اختلالات الدولة في غضون ممارساتها السلطة؛ لعدم التكافؤ في رأس المال المادي والرمزي، وعندما يواجه المجتمع تلك اختلالات فإنه يقع في أتون الحرب الأهلية. هكذا يكون المجتمع أمام خيارين: دولة الغلبة والنهب الصافي[13] أو الحرب الأهلية.

  4. تجعل الفدرالية من النظام الدولي شرطاً ضرورياً لضبط اختلالات العلاقة بين الدولة والمجتمع المحلي فيما لو نشبت حرب أهلية أو لمنع وقوعها وبالتالي قامع محلي، ويصير الخارج متعهداً لحفظ التوازنات الداخلية. وبالتالي لا تدوم إلا بواسطة ضابط إقليمي أو دولي. وهكذا تصبح أيضاً قناة لإعادة إنتاج الهيمنة الخارجية، فيحقق الخارج نفسه بكفاءة عالية عبر نظم الفدراليات في المجتمعات المتعددة الإثنية.

  5. ليست الفدرالية صيغة سياسية تحفظ المشتركات كما لا تعكسها. بمعنى أنها ليست فعالية تتوسط المجموعات الاجتماعية تسلم بها الأخيرة. وأن حكماً ذاتياً للمجموعات الإثنية لا يكرس المشتركات فيما بينها ولا تتأصل الرابطة بينها والحكومة المركزية، بل يقوي التشاحن بينها ويقضى على ما تبقى من حقيقة مشتركة.

  6. تعطل الصيغة الفدرالية إمكانات البحث عن نظام حكم تتشارك فيه الكثرة والقلة الحكم مع الحاكم، يقوم على توسطات مادية ولغوية وزمنية غير منفصلة تجسد حياة الناس، ويجمعها التاريخ الفعلي لا المتخيل، وعبر تقنيات عيش عندها ديمومة[14].

  7. في الحالة السورية، إن المقاربة السياسة القائمة على منح إدارات حكم ذاتي[15]، فعلياً لا تمثل حلاً للمشكلة السورية وإنما تأتي كحل لمشكلة تقاسم النفوذ الدولي والإقليمي على سورية، ولإضفاء الشرعية على توزيع النفوذ عبر آلية الحكم المحلي/الذاتي المقرونة بالضرورة بضمانات خارجية. ولئن كان مستقبل سورية قد يكون نسخة تحاكي النموذج العراقي أو قد يذهب أكثر في مستوى التقسم لجهة إدارات حكم ذاتي عبر تسوية دولية أوسع ففي النهاية ليست هذه المقاربة تعبيراً عن حاجة سورية واقعية بقدر ما هي تمثيل مصالح الخارج الاستعماري لضمان بقائها وتحويلها إلى جهاز للفوز بالقبول من خلال نخب محلية متعاونة لإقناع مناطق التقسيم بالسيطرة الخارجية والتحكم بها من قبل القوى الخارجية.

    إذ تصير هذه الإدارات الذاتية فكرة مفترضة سلفاً يستنبط منها الواقع السوري الجديد، وليست مسألة صدق تناظر مع الواقع السوري يتعلق بما يوجد فعلياً. ومن خلالها يتم تحويل السيطرة الخارجية إلى شكل من أشكال الحماية[16]. فضلاً عن ذلك إن هذا الشكل السياسي المقترح إذ يأتي لمكافحة ممكنات التغيير الطبيعي ضد الاستبداد أو السلطة المعزولة عن الناس التي لا تشاركهم الوجود، وبالتالي كتدابير افتراضية للحيلولة دون صعود قوى ثورية طبيعية تستند إلى الناس لا إلى الخارج، ولتفكيك تلك الحواضن الجمعية التي تعمل بتقنيات عيش حقيقية بالضرورة تعمل ضد السيطرة بالقوة وبالخارج.
 
الفدرالية وخلق ديناميات جديدة
 
تقوم الفيدرالية في العراق على أساس ثنائي قومي وإداري وفق تصنيف أنثروبولوجي للمجموعات القومية من أجل ضبطها بيروقراطياً. فهي من ناحية تقر بإقامة إقليم كردستان بحدوده الحالية على أساس عرقي وتعطي من ناحية ثانية لكل محافظتين أو أكثر حق الانتظام في إقليم بغض النظر عن واقع الاتساق القومي بين عموم محافظات العراق غير الكردية. وقد فرض الجانب الأميركي الخيار الفدرالي مراعاة لمصالح إقليم كردستان برغم انعدام شرطها الثقافي والاجتماعي عند العراقيين.

ومن جانب آخر، وبسبب التداخل الكبير بين السكان العراقيين من السنة والشيعة، إذ تمثل مساحة الرقعة التي تضم تجمعات سكانية عربية مختلطة مذهبياً ما يعادل تقريباً مساحة كل منطقة ذات أغلبية مذهبية واضحة، كما أن حجمها السكاني يزيد على نصف سكان العراق إذا ما استثنينا سكان المناطق ذات الغالبية الكردية[17]،  يجعل من عملية التقسيم والفصل بين المجموعات السكانية ممتنعة ولن تكون إلا عبر تطهير عرقي أو تغيير بيولوجي في المناطق عبر سياسات إحلال وتهجير لتشكيل أحزمة سكانية نقية، في حالة فشل الاستيعاب الفدرالي بناء على تقاسم السلطة.

وكذلك يمنح الدستور الفدرالي للأقاليم والمحافظات مكاتب في السفارات والبعثات الدبلوماسية العراقية،  في إجراء غير مسبوق على مستوى كل التجارب الفيدرالية في العالم. وبذلك يمكن القول إن الفيدرالية التي تضمنها الدستور العراقي مضت أبعد مما يجب في تشظية السلطة[18]. كما إنها أسست لنظام فيدرالي لا يتفق مع المفهوم النظري المعروف للفيدرالية ويكاد أن يصل في ملامحه العامة إلى حدود الكونفدرالية التي تعني الاتحاد بين دول مستقلة وذات سيادة[19].

ومع ذلك، يعتبر الدستور الفدرالي أن "العراق دولة اتحادية وأن الدستور ضامن لوحدته" وأن  "السلطات الاتحادية تحافظ على وحدة العراق ونظامه الاتحادي" فمن حقها  كبح جماح أي انفصال إقليمي. لكن من جانب آخر يبقى إمكان انفصال إقليمي وارداً بحسب منطق "تقاسم السلطة" غير المتسق مع الهيئة الاجتماعية التعددية، الذي أقره الدستور مانحاً الأقاليم ذاتية خاصة من خلالها يطور منطق انفصالي فتزيد الأمور سوءاً. والمعنى أن الصيغة الفدرالية خلقت ديناميات جديدة تحوز رهانات بجعل أفق الاستقلال في دولة خاصة ممكنة فعلياً وخاصة أن المجموعات الإثنية تضمر الفدرالية كخطوة تكتيكية وليست نهائية.

والمعنى المقصود أن الفدرالية لم تكن صيغة سياسية نهاية لمن يضمر طموحاً في الاستقلال الكامل، وأنه يتم استخدامها فقط لفتح مزيد من الفرص السياسية مستقبلاً. ونتذكر هنا سياسات التهجير والتعريب القسريين وتغيير الواقع الديموغرافي من قبل الحكومة الاتحادية التي يفترض بها بأن تقوم بدور تكاملي بدلاً من ذلك تورطت في سياسات الهوية حيال المناطق الكردية من خلال تهجير السكان الكرد والتركمان من كركوك وهو إقليم متنازع عليه بين حكومة بغداد وكردستان. فضلاً عن مناطق أخرى مثل سنجار ومخمور وخانقين التي يوجد فيها جماعات عرقية مختلطة تدعي حكومة إقليم كردستان أنها جزءٌ من مجالها. ومن المؤكد أن شكوك حكومة إقليم كردستان حول المناطق المتنازع عليها ستكون موضع تساؤل من جراء سياسات الحكومة الاتحادية في بغداد التي تسعى إلى تغيير الواقع بخلق حدود جديدة وفتح مساحات واقعية خارج نطاق الدستور الفدرالي الصوري.

وتكررت هذه السياسات لحكومة بغداد في غضون الحرب على داعش ثمة تقارير تفيد بأن هناك عمليات تطهير جرت لتحدي السيطرة الكردية على كركوك[20]. ونذكر هنا أيضاً بأنه كان من تداعيات الاستفتاء الكردي الذي تم في 25 سبتمبر  2017، أن استغلت حكومة بغداد في غضون استعادة مدينة كركوك، السيطرة على كل المناطق المتنازع عليها في محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى، وصل الأمر إلى خسارة حكومة إقليم كردستان ما يعادل 50 في المئة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها من قبل [21].

فضلاً عن ذلك، إن الحل القائم على الفدرالية خلق استعدادات لدى السلطات المتنازعة إذ سرع من ممارسات التطهير العرقي للمناطق المتنازع عليها وداخل المناطق المسيطر عليها للحصول على مناطق متجانسة السكان.  فقد اتهمت الحكومة العراقية بالاستمرار في سياسة إبعاد الأكراد من المناطق الخاضعة لسيطرتها قرب مدينة أربيل إلى كردستان العراق[22]. وهو المصير ذاته الذي مورس على العرب السنة في كردستان العراق بسبب ما يواجهون من التهجير والتطهير عندما جرى إبعادهم من مناطق واقعة تحت سيطرة الأكراد. وقد ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن القوّات الكردية منعت أعداداً كبيرة من العرب الذين هربوا إثر الحرب على داعش من العودة إلى منازلهم في تلك المناطق، خصوصاً في أجزاء من محافظتي نينوى وأربيل، في حين سمح للأكراد بالعودة، وحتى بالانتقال إلى منازل العرب الذين لاذوا بالفرار[23].
 
 
من جانب آخر، فرض الجانب الأميركي اعتماد معيار المكونات الاجتماعية كأساس للدولة العراقية حسب(المادة3) من الدستور بدلاً من اعتماد معيار المواطنة، وأحدث شرخاً في هوية العراق الطبيعية، أفضى إلى صراعات اجتماعية متعددة ألحقت ضرراً كبيراً في السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي[24]. وقد استهان القانون الفدرالي بمسألة مهمة وغاية في الخطورة وهي مسألة تقسيم البلاد على أقاليم وتركها تخضع لرغبات التيارات المختلفة. وبالتالي بإمكان التيارات والكتل التي ترغب في تكوين الأقاليم أن تضع القانون المناسب لها على وفق الشروط والضوابط التي لا تتعارض مع مصالحها. وبذلك يمكنها أن تحصل على الموافقة بتكوين أي إقليم بلا عناء حتى وأن كان ذلك الإقليم مكوناً على أساس طائفي. ويعطي الدستور الحق لكل إقليم أو محافظة مقومات دولة لها نوع من السيادة من خلال إنشاء قوات مسلحة أو إصدار عملة نقدية وتحديد سياستها المالية وغير ذلك من معالم الدولة.

إن مسألة السهولة التي أجازها الدستور في مسألة تكوين الأقاليم توضحها المادة(١١٩ ) التي نصت على أنه يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه بإمكان أي مجلس تحقيقها. وهكذا، فإن الفدرالية هنا تخرج عن كونها اتحاد طوعي بين القوميات في بلد واحد، وتتعداه إلى ما يمكن أن يؤدي إلى فدراليات طائفيه [25].
 
أبعد من الدستور ... أبعد من الواقع
 
ما أن تجاوزنا التحليل القانوني إلى التحليل السياسي الواقعي، تنبلج مشكلات أكثر عمقاً وإن كانت خارج حساب المنطق الفدرالي. فثمة من المجموعات الإثنية الكبرى تحديداً ترى أن المناطق التي تعيش عليها تلك الإثنيات؛ لا يساوي إلا جزء من مشروع أكبر يمتد خارج العراق، أو أن أجزاء العراق هي جزء من ذلك المشروع الأكبر، وهذا ما نجده لدى القوميين العرب والقوميين الكرد[26]. فكلا القوميتين يسود بينهما تيار قوي لا ينظر للعراق كدولة موحدة وطنية، إنما العراق هو جزء من أجزاء أكبر كان يفترض أن تكون كل منها دولة.

ومن زاوية شبيه، هناك من بين الإسلاميين، الذين يبنون تقسيماتهم وفق رؤية شمولية، لا ترى في العراق دولة لها سيادة وإنما يعد في نظرهم جزء من مشروع أوسع ينتمون إليه يمتد ليشمل كل دول الانتماء العقيدي. ومن ثم فإن مشروع الدولة غير واضح المعالم من جهة الانتماء الأوسع، كما أن الشعور الديني يفضي إلى توظيف كل إمكانات الدولة في خدمة مشروعها الذي تعتقد أنه هو النظام الأمثل لبناء الإنسان والمجتمع[27]. وهناك من بين العلمانيين الذين يحلمون بعراق ليبرالي، وطالما أن الدولة في الأساس هي مشروع علماني لا ديني، فالدولة عندهم إجراءات ذات صبغة علمانية. وهناك القبليون ومن ليس لهم حلم سوى الحلم بالعيش بعيداً عن كل ما تقدم من أطروحات، وهؤلاء يمثلون أغلبية صامتة، لكنها أغلبية غير منظمة لا تستطيع العمل في ظل هذا الواقع، والنظر في علاقات القوى تجعل المواطنين الذين لهم هذه القناعات في أضعف حال، وأن هذا التيار ومريديه لا زال غير مرصود ولم يظهر إلى السطح بعد[28].

وفي إطار علاقات العراق الخارجية، فقد فرضت الولايات المتحدة الأميركية، ودول الجوار، إرادتهما في توجيه العراق الرسمي باتجاه يتقاطع مع سياسات العراق قبل عام 2003، عراق يبحث عن توازن غائب في علاقاته بين اتجاهات إقليمية متقاطعة ومتصارعة[29]. هذه الإرادات أثرت بدون شك في عملية التوازن والتأثير للتيارات والقوى السياسية الموجودة في العراق. تجلى دورها بشكل صارخ إبان المحاولة الأخيرة لانفصال كردستان العراق حيث لعبت كل من إيران وتركيا وبتواطؤ أمريكي دوراً في إحباط المحاولة الانفصالية. بحيث تظهر عملية التغيير والتصدع الاجتماعي والسياسي حدود عدم تخطي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والقوى الإقليمية ذات المصلحة.

وبالتالي لم يكن بمقدور حكومة بغداد من إحباط المحاولة الانفصالية الأخيرة للأكراد إلا من خلال أذرع لإيران وتركيا، مما يكشف بأن القوى الإقليمية هي من حفظت الفدرالية العراقية الهشة باعتبارها عنصر تسكين وتهدئة بعد أن أمعنت في تفكيكه وتطييفه لتبقى هي ممسكة بتوازناته الداخلية.  

ما زال النظام السياسي، وبعد دستوره الجديد عام 2005، يعيش في أزمة معقدة على المستويات كافة وفي القطاعات المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما أدى إلى ظهور الاضطرابات السياسية وانعدام السلم الاجتماعي والمدني، وتعدد الولاءات والقيم والمرجعيات الوطنية، وكثرة الصراعات والتناقضات، وتفاقمت ظاهرة التفكك السياسي والتحلل الاجتماعي، وأصبحت أجهزة الدولة مشلولة وضعيفة، مما رشح اللجوء إلى ممارسة العنف وتفاقمه إلى الحرب الأهلية[30].

وكما هو معرف فالعراق منقسم إلى عدة طوائف وأقليات أثنية ودينية، حيث تكمن المعضلة السياسية من فقدان الثقة السياسية بين كل من العرب من جهة والأكراد من جهة الساعين لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاستقلالية من السلطة الاتحادية. وأن الانقسام الديني المذهبي من جهة أخرى، ألقى بظلاله هو الآخر على الواقع السياسي، وهو ما يشكل مشكلة حقيقية تواجه الاستقرار السياسي في العراق ما يفرض عليه مواجهة معضلة معقدة في تعريف هويته.

والحاصل أن إطاراً دستورياً فدرالياً لتحديد هوية العراق لم يسهم في حل المعضلة، بل فاقم في تعقيد ما هو موجود، كونه خلق معضلات أخرى بين أتون نصوص دستورية لا رابط لها في الغالب[31]، فضلاً عن تكريس ضعف فكرة الدولة المركزية جراء سوء تدبيرها، فلم تسطع إدارة التعدد الهوياتي خاصة مع إرادة الأكراد للانفصال، ومساعي السنة لإقليم خاص ومحاولات حذو الشيعة نحو احتلال مساحة تخصهم بإيعاز من إيران ومحاولات الأخيرة من خلالهم السيطرة على المؤسسات الرسمية.
 
استخلاص الدرس العراقي
 
يتبين أن الفدرالية العراقية لم تفلح في تحويل نمط الحياة السياسية بالتخلص من الانقسامات العميقة وتجاوز النوازع المحلية الضيقة والطائفية والعرقية كما وعدت بالخلاص منه. بدلاً من ذلك فقد جلبت ما لم يكن موجوداً من قبل. فقد كرست النزاعات الموروثة بل صارت أكثر عمقاً مع تقاسم السلطة التي خلقت كينونات ذاتية مكنتها من تحريك مواردها الاجتماعية لتحقيق مزيد من المكاسب الإثنية عوض الاندماج في النظام العام وبالتالي مأسسة السياسات الإثنية كموقع جديد خلقته الفدرالية. إذ أدخل هذا التقاسم للسلطة إلى المجتمع جائزة قيمة جديدة يجري التقاتل عليها، وأنتج قوى جديدة مخفية صامتة غير قادرة على أن تسيس ذاتها بسبب ضعف مواردها. فأصبحت الكينونات الذاتية مسيَّسة أكثر من ذي قبل وتشكل ولاءاتها وقلقها وطموحاتها الإثنية مكوناتها الأساسية في عملية التسيس لأجل إثبات الوجود والحصول على الاعتراف بالذاتية العصبوية بل وتوسيع نطاق حدودها الجيو سياسية. وأصبح هذا الأغراء لا يقاوم لدى النخب السياسية في تسيس مشاعر الروح الضيقة والمناطقية والمجالات اللغوية والعرقية والدينية يتجلى أكثر في أثناء تحريك الجماهير في الانتخابات العامة. لتبدو هنا الفدرالية حالة ارتكاسية لا تقدمية.

ومن جهة أخرى، لم تمثل الحكومة المركزية العراقية حكومة إصلاح اجتماعي ذات عزم وقرار مرتكز إلى الدعم الشعبي وإلى المزيد من الوحدة في ترويض الانتماءات العصبوية من قدرتها على الشرعنة وبالتالي التطبيع السياسي لاحتواء هذه الانتماءات تحت مظلة وطنية واحدة. وعلى العكس فالحاصل أنها  انخرطت في سياسات الهوية حالها حال المجموعات الاجتماعية التي تكفلت برعايتها. فلم تمثل الحكومة الاتحادية تقييداً ثقافياً ليشكل المحتوى المطلوب لهوية البلاد بل أدت ممارساتها إلى أحياء العداوات والصراعات. وهكذا، خلقت الفدرالية العراقية موقعاً جديداً يعرف بديناميات "الحرب السياسية المحازية"[32] حيث تنخرط فيها الهويات ومشاعر الانتماء المتعارضة والطموحات الإثنية المتسارعة.

فالسياسة الفدرالية لا تلغي الهويات الإثنية لكي تتصالح مع وجود مؤسسات وطنية متطورة، بل تضفي عليها مسحة جديدة فحسب. وأن استبدالها الروابط والهويات الضيقة بروابط وطنية مجردة تفترض زمناً عراقياً فارغاً متجانساً لبيروقراطية الدولة الفدرالية كشرط غير قائم فعلياً لمبدأ المتخيل الفدرالي، من المحال مع الحكومة الفدرالية التي صارت متعادية أكثر مع مكوناتها بل وعكست ممارساتها هيكلية إثنية.

وهكذا فإن عملية تشكيل الدولة العراقية بالنموذج الفدرالي نفسها من بين أشياء أخرى تستثير النوازع الضيقة والسياسات الإثنية والهوياتية. فالشروط السياسية الفدرالية في التجربة العراقية استبعدت من الناحية العملية استراتيجيات الإدماج، وبدلاً من ذلك كانت مقارباتها اتباع الاستيعاب الإكراهي كآلية مؤسسة لإدارة الصراع الإثني. كان من نتائج هذه الاستراتيجية إثارة الوعي الإثني وتحفيزه بدلاً من حجبه في إطار مرجعي أشمل. كما أن هذه الاستراتيجية حتى إن أفلحت في الاستيعاب الإكراهي الرأسي، بين المركز والتوابع، إلا أنها لم تفلح بتاتاً في الدمج الأفقي بين المجموعات الإثنية كشرط لتكوين أمة متسقة تمزج بين المجموعات المتنوعة معاً وفرض النسق الواحد على حقيقة اجتماعية تعددية، بل حالت دونه.

ولذا فقد أثبت الدستور الفدرالي العراقي أنه لم يساعد حتى على اندماج المجموعات المتنوعة في نظام سياسي تكاملي بقدر ما قام على تصميم ترتيبات دستورية للإبقاء على المسائل الإثنية التمزيقية. وفي الواقع استكملت الصيغة الفدرالية حقيقة الحرب الأهلية فأبقتها في حالة كمون، وإن كانت لم تقع بعد بشكل واسع، فذلك ليس بسبب الدستور الفدرالي وتقاسم السلطة بل لأن الصراع الداخلي لم يلتقِ مع ضغط خارجي محفز يسمح به ويأخذه لأقصى الممكن[33].
 
سورية وتجديد الوعد الفدرالي
 
أنجزت الثورة السوريّة بجسارتها وتضحياتها الملحمية والتراجيدية واقعاً موضوعياً في عملية التغيير السياسي والاجتماعي الحادة والتي ما تزال تدور رحاها في المجتمع السياسي السوري. والمعنى أن الواقع الجديدة الذي أفرزته القوى الثورية لا يمكن الرجوع عنه. وتتمثل موضوعية هذا الواقع بوصول أزمة النموذج أو الباراديغم التسلطي إلى نهايته[34]، أي إلى الأزمة البنيوية المنكشفة، بالرغم مما يظهر من محدودية وضعف مؤشرات سقوطه من داخله أو خارجه، لكن تبقى استحالة عودته إلى ما كان عليه قبل مارس 2011[35]. فمع ميزان القوى الجديد الذي أنتجته الثورة إذ لم يعد للنظام أن يحكم بوسائل وآليات ومدركات ومؤسسات ما كان عليه.

وفي هذا السياق الثوري، تظهر استثارة التكوين الطائفي، وأن دينامياته تحفز ارتفاع مخاوف مظاهر التطييف المباشر وغير المباشر، فضلاً عن استثارة النعرات الإثنية، وأن الدخول إلى المجتمع العصبوي وصل إلى حد الانقسام والاستقطاب والتطهير المتبادل أحياناً من قبل الجماعات المتماهية مع استمرار النظام، ومن قبل التيارات المتطرفة في الاتجاهات المقابلة.

مع اقتراب الصراع في سورية من مراحله الأخيرة والمحاولات الدؤوبة لتجميد القتال بين النظام والمعارضة، بدأ الحديث عن خيارات الحل السياسي الأنسب في البلاد يطل برأسه. وفي إطار النقاش العام حول مستقبل سورية يحاول هذا النقاش أن يموضع المشهد السوري أمام المعادلة التالية: الفدرالية أو الانفتاح على البلقنة والتقسيم. يأتي هذا الطرح من قِبل قوى متعددة دولية ومحلية. إذا كان مفهوماً تأييد أميركا وروسيا وأوروبا والغرب عموما[36] لتسويق فكرة الفدرالية باعتبارها أفضل نظام للحكم والتنمية والمشاركة العادلة في الحياة العامة متجاهلة التجربة العراقية المخيبة للآمال الفدرالية، فعلى الأقل لا تطرح مثل هذه الفكرة ما لم تكن ثمة مصالح وفوائد استراتيجية لهذه الدول. ولا ننسى أن أحد أخطر إفرازات التجربة العراقية أن توازناته الفدرالية صارت مضمونة بالخارج.

ثمة من القوى السورية ترفض الفدرالية جملةً وتفصيلاً، إذ ترى فيها مدخلاً للتفتيت والتقسيم ولإضعاف البلاد بغية التحكم به مستقبلاً. لكن هذه القوى لم تطرح بديلها، خاصة أن الفدرالية هي أقصى الممكن الذي اخترعه "العقل السياسي الكوني" المزعوم لإدارة المادة الاجتماعية بسبب الاختلاف السكاني والامتداد الجغرافي، أنتجه الغرب وفق شرطه التاريخي الخاص في غضون صيرورة تشكل الأمة الحديثة.

في خضم الثورة السورية كانت النخبة السورية تواجه بسؤال حيال تصوراتها  لنظام الحكم ما بعد الثورة: فإذا سقط نظام بشار الأسد اليوم، كيف سيكون حال سورية؟ هل ثمة أي ضمانات في أن يكون الوضع أفضل؟[37]. والحال أن الوجهة الغالبة لدى النخبة السورية كانت تفصل صورياً بين إزالة النظام وإعادة البناء[38]، كحال المعارضات في الوطن العربي: تعارض بدون صيغة حكم بديلة تقوم على التفاهم والاتساق بين المستوى السياسي والتركيب الاجتماعي المعقد. من البديهي أن مطلب إزالة النظام لا بد أن يتساوق معه إبداع قواعد لعبة اجتماعية سياسية جديدة بمقدورها تحصين المجتمع السوري المركب الهوية من الانهيار. وعلى الأقل حتى لا تتكرر خيبات السيناريو العراقي الماثلة أمامنا.
 
 
جاء التأييد الكردي للفدرالية على ثلاث مستويات، مستوى المجلس الوطني الكردي الذي رحب بالفكرة بعد أن كان العديد من أحزابه قد طرح الفدرالية في عام 2006، ومستوى تأييد حكومة إقليم كردستان العراق حيث أصدر رئيس الإقليم مسعود البرزاني بياناً أعلن فيه تأييده لإقامة حكم فدرالي في سورية على غرار تجربة إقليم كردستان من خلال دستور جديد يقر بذلك، ومستوى الإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديمقراطي وحركة المجتمع الديمقراطي[39].

إلا أن هذا الترحيب يُنظر إليه بحذر إذ يبدو خطوة تكتيكية خاصة في ظل مطامح الأكراد في دولة تلم شملهم في المنطقة بعد تهميش طويل لهم من قِبل الحكومات العربية قد تكون بسبب النزعة الاستعلائية للفكر القومي العربي الذي لا ينفك عن طموح بناء انطولوجيا سياسية تحيل إلى لغة إثنية[40] تستخلص بمعزل عن التاريخ والمادة والزمن[41]، فضلاً عن عوامل أخرى داخلية وخارجية.

غير أن هذا الطرح يلقى تأييداً من قبل بعض الأقليات، فيما يقابل برفض دول الجوار سيما تركيا التي تخشى تكرار تجربة كوردستان العراق في سورية، وحصول الأكراد على الاستقلال الذاتي وهو ما يهدد أمنها[42].

على الجانب الآخر، يرى البعض أن فكرة الفيدرالية وتطبيقها في وضع مثل سورية أمر مختلف تماماً عن الدول المتقدمة التي أقرت هذا النظام مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها، لسبب بسيط وهو أن النظام الفيدرالي إن أقر في سورية فسيكون مبنياً على أساس ديني أو عرقي، وليس كما أسس هذا النظام لأجله على أساس المواطنة الكاملة بحرية كاملة، قانونياً وثقافياً، في التنقل والحراك المكاني والطبقي دونما نظر لأي اعتبارات[43].

ومن ناحية أخرى يتميز الوضع الكردي في سورية عن بقيه الوجود الكردي المجاور في الإقليم. كونهم ليسوا أصحاب حق أصيل في الأراضي السورية مثلهم مثل مجموعات أخرى. فقد فروا إلى سورية بسبب الاضطهاد الذي لأقوه من الأناضول ومن الهضبة الإيرانية زمن الحروف الصفوية - العثمانية، فقد صرح الزعيم الكردي عبد الله أوجلان أن أكراد سورية "كلهم لاجئون من تركيا"، وهذا التصريح يدلل على غياب فكرة كردستان سورية لدى الأكراد آنذاك[44].

حيث لا يقيمون على "أرضهم التاريخية" بل أتى معظمهم حديثاً من كردستان تركيا. فضلاً عن ذلك إن المناطق الكردية في سورية متناثرة ولها هويات جغرافية محلية مختلفة ولا تشكل اتصالاً جغرافياً واحداً أو منطقة نقية كردياً بل تتخللها مناطق عربية كثيفة وبالتالي لا يشكل الأكراد في سورية سوسيولوجياً كلاً متجانساً( فهم يتكلمون عدة لهجات، وينتمون إلى عدة أديان وطوائف، سنة وشيعة وعلويين وإيزيديين، وينقسمون على المستوى الاجتماعي والطبقي والقبلي بين حضر وبدو،، ولا يمكن تصنيفهم ضمن فئة لها وجود أنثروبولوجي أصيل أو جوهري في سورية[45]).

 غير أن الأزمة السورية 2011 أتاحت فرصاً وخيارات جديدة أمام المسألة الكردية في سورية حيث نضجت شروط ملائمة أتيح لهم التعبير العلني عن مطالب الفدرالية، حيث وضعتهم الحالة الثورية أمام فرصاً انفتحت أمامهم في حيز من الغموض وعدم اليقين( مرحلة بين بين)[46]، وهي الوقوف على عتبة التحول نحو الانفصال والحكم الذاتي المستقل من خلال خلق تاريخ متخيل للافتراق عن المتخيل الوطني السوري، وبين الاندماج في الجماعة الوطنية السورية. ومع ذلك ثمة اعتبارات أخرى تدفع نحو إغواء أكراد سورية لجهة الانفصال وإقامة الفدرالية في شمال سورية لأنه يتوقف على التطورات الجيوسياسية للأزمة السورية وتفاعلات المناخ الدولي في الإقليم بما يتعلق بإعادة رسم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الداعم المركزي للأكراد في سورية وروسيا ومصالح الدول الإقليمية المهيمنة.
 
المتخيل الفدرالي إذ يصير أفقاً للواقع
 
للمرء أن يلامس في أثناء ديناميات الثورة السورية أن بعض القوى التي لها سيطرة على الأرض داعبت أفئدتها فكرة الفدرالية لمرحلة ما بعد الأسد، وكيف أن هذا التصور وقبل أن يصير حقيقة متعينة أفرز مسلكيات عنفية أفقياً وفي أثناء معركتها رأسياً ضد النظام. وبناء على هذا المتخيل الفدرالي، استغلت الوضع الثوري لخدمة أجنداتها الفدرالية  المستقبلية. لنا أن نتخيل فيما لو لم يكن هذا المتخيل الفدرالي قائماً نظرياً كيف ستكون الممارسة! وكيف أن الواسع(الواقع المتعدد) حشر في الضيق(النموذج الفدرالي كقامع معرفي سياسي)!. فقد مارست حملة تطهير عرقي لخلق وقائع على الأرض لتحسن شروطها في التفاوض على مستقبل سورية بعد أن تمكنت من تغيير الواقع السكاني في مناطق سيطرتها. فقد نزح آلاف من العرب من سكان الريف الغربي لمدينة الحسكة بسبب ما يبدو أنها حملة تطهير عرقي المتهم المباشر في تنفيذها هي وحدات حماية الشعب الكردية التي تشمل انتهاكاتها تشريد السكان العرب وإعدامات[47].

ورصدت تقارير أخرى حملة تطهير وتهجير [48] ينفذها الجناح العسكري الكردي التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي  بوصفها قوة رئيسة في شمال سورية ضد العرب السنة في المناطق التي تسيطر عليها شمالي سورية  تحت تهديد السلاح، وأن "وحدات حماية الشعب الكردي" قامت بحرق قرى العرب السنة في المنطقة بعدما سيطرت على بعض المناطق[49]. وثمة اتهامات متوالية وجهتها منظمات حقوقية دولية وشهادات وثقها ناشطون تتحدث عن حملات تطهير عرقي ممنهجة ضد العرب والتركمان تنفذها مليشيات كردية تحمل اسم وحدات حماية الشعب الكردية[50].

فضلاً عن ذلك، فقد طاول الصراع القومي السياسي المدارس ومناهج التعليم في كلّ من مدينتي الحسكة والقامشلي السوريتَين، جراء فرض مناهج جديدة باللغة الكردية على المدراس في المناطق التي يتقاسم فيها النظام والإدارة الذاتية الكردية[51].  وفي ريف حلب الشمالي، هددت الإدارة الذاتية الكردية معلمي المدارس بالفصل من وظائفهم ما لم ينهوا إضرابهم احتجاجاً على فرض المناهج الكردية في البلدتين العربيتين اللتين تقعان ضمن الحدود الإدارية لمدينة عفرين. بالإضافة إلى محاولة الأكراد من تكريد  مدن سورية بتغيير أسمائها من عربية إلى كردية[52].

وبالفعل، أعلنت قوًى سياسية كردية، في مقدّمتها حزب الاتحاد الديمقراطي "الكردي"، في اجتماع عُقد بمدينة الرميلان، بمحافظة الحسكة، في 17 مارس 2016، قيامَ "الاتحاد الفدرالي" بين ما سُمِّيَ أقاليم "روج آفا" (غرب كردستان) و"أقاليم شمال سورية". وانتخب المجتمعون لجنةً من 31 شخصاً لوضع أُسس "الفدرالية" خلال ستة أشهر في مؤتمر تأسيسي يُعقد من أجل تصديقها. وأعلن زعيم الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، أن الكيان الفدرالي المذكور لن يقوم على أساس جغرافي، بل على أساس ديموغرافي (إثني). ويغطي الإقليم المنشود نحو 10% من أراضي سورية وثلاثة أرباع حدودها مع تركيا، وتسيطر عليه فعليّاً مجموعات تابعة للاتحاد الديمقراطي[53].

على خلاف وضعهم في العراق، لا يقطن أكراد سورية منطقةً جغرافيةً محددةً، بل يتوزعون في مناطق واسعة. ومع ذلك فقد نجح حزب الاتحاد الديمقراطي، نتيجة لسيطرته على بلدة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي الغربي، في تحقيق وصلٍ جغرافي بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، ويجهد في وصل هاذين الكانتونين بكانتون عفرين شمال حلب، عندما يتراءى له أنّ الأوضاع الميدانية والسياسية مواتية، بخاصة في ظلّ حُظوته بدعم مشترك روسي - أميركي شجّعه على إعلان الفدرالية من جانبٍ واحد[54]. وإذ يحاول الحزب استغلال الأوضاع التي تمرّ بها سورية لتحويل مطالب الأكراد السوريين من مطالب خاصة بحقوقهم إلى مطالب فدرالية وهو لذلك يواصل التطهير الإثني ضدّ العرب. وما يشجع على ذلك هو التوافق الدولي بين أمريكا وروسيا والغرب على نظام فدرالي في سورية.

 مما تقدم يتبين أن أفق التسوية التاريخية في سورية قد تجترح النموذج الفدرالي كأحد الخيارات الممكنة. وأمام التجربة الفدرالية العراقية، إذ ينطرح السؤال ما إذا كانت ستصير سورية نسخة أخرى من العراق تلقى نفس مصيرها الفدرالي المنكوب والمخيب لوعوده. وأن تحقق فدرالية في سورية يتوقف على التطورات الجيوسياسية للثورة السورية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية ومصالح أمريكا ومطامعها في سورية. فضلاً عن ذلك، وفي ظل عدم استقرار هيكلي تشهده الحالة السوسياسة في الشرق الأوسط وسورية خاصة فإن ممكنات تحطم أي جنين فدرالي واردة ومصير الاجهاض المتكرر والاعتلال الدائم يبقى أفقاً مفتوحاً[55].

فضلاً عن ذلك إن الانفصال والمناداة بمفاهيم مختلفة من حكم ذاتي أو فدرالية أو حق تقرير المصير يحجب أفقاً أخر ممكناً من صيغ للتعايش والتركيز على الأرضية الجامعة بين العرب والأكراد[56]، والرموز المشتركة بين القوميتين التي أدت أدواراً مهمة في الحضارة العربية الإسلامية، تشكل بدورها نماذجاً لإعادة إحياء الحقيقة المشتركة، من صلاح الدين الأيوبي أو من التاريخ السوري المعاصر نذكر  إبراهيم هنانو ويوسف العظمة  وأحمد كفتار وسعيد البوطي، وإبرازهم كمسلمين[57] أكثر من كونهم أكراداً فحسب حيث تؤكد هذه النماذج على الوعي المشترك ومشاعر المرجعية النابعة من الذاكرة التاريخية لا الافتراق باختراع متخيل رمزي يكرس الانفصال والقطيعة عبر تمزيق جيوسياسي (الجغرافيا) وتمزيق جيوثقافي(المرجعية المشتركة).

وهكذا إن فكرة الفدرالية كما كشفت  الممارسة أو فكرة منح إدارات حكم ذاتي كما يُنظر البعض لمستقبل سورية كوجود ممكن، ليستا إلا فكرة مفترضة سلفاً يستنبط منها الواقع، وبوصفها قوة إنتاج معرفي/سياسي غرضها التدخل في الواقع عوض التحميل على الفعلي الواقعي أو السوري كما هو كائن فصار ما في الأعيان يجب عليه أن يمتثل لما في الأذهان. في هذا الافتراضي[58]يكمن تفسير مصدر كل خراب وعنف محليين، وذلك من أجل نمو السلطة القهرية ومشروعية هذه السلطة ولأدائها الأمثل سواء أكانت سلطة محلية أو استعمارية.
 
الهوامش:
[1] انظر الرابط.
[2] ينظّر قسم غير يسير من الفكر السياسي بأنّ الصيغة التي تقوم عليها الدولة الطائفية في لبنان هي بالأساس شكل من أشكال الفدرالية غير الجغرافية، حيث يمكن تصوّر الطوائف كفضاءات متجاورة نظرياً، ومشابهة بالتالي لولايات الدولة الاتحادية، مع فارق أنّها مختلطة، أو بالأحرى متداخلة، في الواقع المكانيّ العينيّ. انظر الرابط.
[3] انظر الرابط.
[4] محاولة انفصال كردستان العراق في دوله تخصهم في سبتمبر 2017 ليؤكد على فشل النظام الفدرالي في العراق في صناعة الموافقة العامة.
[5] انظر الرابط.
[6] مثل نوح فيلدمان، وهو أستاذ قانون في كلية هارفارد للحقوق، وله كتابات دستورية عن الشرق الأوسط.
[7] انظر الرابط.
[8] انظر الرابط.
[9] انظر الرابط.
[10] جنكيز تشاندرا، انكفاء مشروع الدولة الكردية، مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 113، ص23.
[11] تمر الكيانات الاجتماعية في المشرق العربي راهناً بحالة تحول غير مستقرة لم تقفل بعد على صيغة مقبولة، ودخولها في تشكيلات حداثية مشوهة، قامت بإعادة إنتاج العلاقات العضوية ما قبل الحداثية حماية لمصالح نخب معينة، فالقبيلة والطائفة هي تطويرات حداثية مشوهة لأشكالها التاريخية السابقة، أي انها تشكيلات اجتماعية مصنوعة ولا يجوز أن نصفها بأنها تقليدية، ولا انها حداثية، بل هي كيان اجتماعي (بّيْن بّيْن). انظر: هاني عواد، تحولات مفهوم القومية العربية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013، ص120.
[12] في الإطار العراقي، قد منح الدستور الفدرالي الحكومة المركزية سلطة ضمان وحدة العراق في مواجه النزاعات الانفصالية، بينما  كشف الواقع أن الحكومة العراقية نفسها تورطت في عمليات اقصاء على أرضية إثنية. وفي إطار الحالة السورية، يرى جمال باروت، وهو باحث سوري معروف، أن الهيئة الاجتماعية السورية ستنهار برمتها مع انهيار النظام. وعليه، أن مطلب إزالة النظام لا بد أن يسبقه ابداع قواعد لعبة اجتماعية سياسية جديدة بمقدورها تحصين المجتمع السوري مركب الهوية من الانهيار.
[13] دولة النهب الصافي تقوم على اقتصاد سياسي مبنياً على قوة طبقة بيروقراطية مُرسملة، والفساد والسمسرة ورأسمالية المحاسيب.
[14] ندرك أن هذا الطرح يحتاج زمناً غير زمننا الراهن المشحون والمستقطب، لأسباب أهمها القامع الابستمولوجي المهيمن على الفكر المحلي، فضلا عن ذلك فأنه يحتاج إلى مقومات أهمها لحظة نظرية تأطرها جامعة تعمل على إنتاج فكري ذات صلاحية متسقاً مع الهيئة الاجتماعية المركبة. لكنه يبقى ضرورياً للتفكر فيه خصوصاً مع استمرار فشل تجربة بناء أمة ودولة حديثتين تقدس صورة الغرب وتعاديه من جهة أخرى.
[15] A Peace Plan for Syria III, Agreed Zones of Control, Decentralization, and International Administration
Link.
[16] كأننا أمام إعادة إنتاج المبدأ الاستعماري القديم "مبدأ تقرير المصير" تحت مسمى الحكم الذاتي والفدرالية وحماية الأقليات، لصوغ هويات سياسية تحيل إلى اللغة الإثنية أو العرقية والطائفية، في حالة صراع في ما بينها وبالتالي معرضة للخطر تزعم قوى خارجية ذات مصلحة بأن عليها واجب الحماية. هكذا يجري خلق تدابر اصطناعية  تقوض المرجعة المشتركة الواحدة المدعومة بالتراكم التاريخي إلى انتماءات سياسية تحيل إلى توصيفات عرقية إثنية معزولة تفشل في تحقيق نموذج سيطرة محلية مكتف وإنما تقترن بالحصول على حماية خارجية مكملة، ومن هنا تبقى هذه الكيانات الاصطناعية بحاجة إلى حماية فتصير مصدراً للاختراق الخارجي.  
[17] انظر الرابط.
[18] المرجع نفسه.
[19] المرجع نفسه.
[20] انظر الرابط.
[21] انظر الرابط.
[22] انظر الرابط.
[23] انظر الرابط.
[24] انظر الرابط.
[25] نغم محمد صالح، الفيدرالية في الدستور العراقي لعام ۲۰۰٥: الواقع والطموح، دراسات دولية، العراق، العدد41، ص61.
[26] خضر عباس عطوان، ظاهرة الانفصال في العالم العربي : العالم العربي بين التغيير والتفكك في ضوء تحديات الاصلاح الداخلية والضغوط الخارجية، مجلة حمورابي، العدد 4، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، بيروت، 2012، ص67.
[27] انظر الرابط.
[28] انظر الرابط.
[29] عصام عبد الشافي، تقسيم العراق بين الاطروحات الامريكية والمواقف الاقليمية والدولية (2.2) ايار 2008.
[30] انظر الرابط.
[31] المرجع نفسه
[32] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص532.
[33] علماً أن هذا الخارج سواء الولايات المتحدة الامريكية أو إيران، هو من ساهم في تقسيم وتطييف الصراع في السياسة العراقية، وهو الآن، للمفارقة، يقمع تحول هذه الصراعات إلى حروب أهلية تخرج عن حدود سيطرته قد تعطل مصالحه. 
[34] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 2012، ص394.
[35] ومن هنا يطرح الباحث السوري محمد جمال باروت فكرة التسوية التاريخية لإطلاق مرحلة جديدة، تحاشياً من انهيار الهيئة الاجتماعية برمتها مع انهيار النظام. ففي وضع التمزق الطوائفي والمناطقي والعشائري، وفي ظل عجز انقسام المعارضة السورية وعجزها عن تكوين كيان ائتلافي موحد حول المرحلة الانتقالية المقبلة، وضعف مؤشرات سقوط النظام، تسوية جديدة حول قواعد بناء اللعبة الاجتماعية – السياسية الجديدة، البديلة من انهيار الهيئة الاجتماعية والإقليم. انظر، محمد جمال باروت، المرجع نفسه، ص396.
[36] انظر الرابط.
[37] انظر الرابط.
[38] يلاحظ على سبيل المثال أن التقديرات الإسرائيلية لآفته بهذا الخصوص. ففي عام ٢٠١٣ عقدت النخبة الإسرائيلية مؤتمراً لمناقشة تحولات الشرق الأوسط، توصلت إلى أن الصيغة السياسية الوحيدة المتوفرة عالمياً حتى الآن للتعامل مع المجتمعات المركبة هي الفدرالية، لكنها لا تناسب منطقة الشرق الأوسط، وما تزال فاشلة في المناطق التي أخذت بها مثل العراق ولبنان. وأن احتمال  حدوث تمزق اجتماعي إثني وطوائفي ومناطقي، سيوفر الكثير من الفرص للقوى الخارجية القريبة مثل تركيا وإيران وأخرى مثل الغرب من أجل التدخل في إعادة تشكيل النظام، وأن حلاً فدرالياً لن يصمد في سورية.
[39] انظر الرابط.
[40] إن استخلاص اللغة  بمعزل عن الحقيقي الذي يجسد ويتوسط الناس هو ما يجعلنا نقول بإن الفكر القومي العربي ليس سوى الحرب الأهلية رمزياً. ويؤكد إيليا حريق أن المثقفين لعبوا دوراً قيادياً في إعطاء القومية العربية سمتها الإكراهية. انظر، دانيال برومبرغ وآخرون، التعدد وتحديات الاختلاف: المجتمعات المنقسمة وكيف تستقر؟، دار الساقي، بيروت، 1997، ص33.
[41] إعادة إنتاج لأطروحة ابن خلدون في مساعيه لإقامة أنطولوجيا سياسية على العصبية/الدم أو الشوكة، حيث تشكل العصبية  بوصفها منبعاً للعنف الذي لا غنى عنه لإقامة السلطة، وهي المرجل الذي يقطر فيه العنف الضروري لفرض الشوكة والهيبة. راجع بهذا الخصوص التقديم اللافت لبرهان غليون لكتاب ميشيل سوار، في محاولة متميزة تعتبر الأولى من نوعها لقراءة نقدية لمفهوم العصبية الخلدوني. أنظر: ميشيل سوار،  سورية: الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017.   
[42] انظر الرابط.
[43] انظر الرابط.
[44] حسام عبد الرحمن، معضلة الأكراد السوريين بين صيرورة الاندماج وأسطورة الانفصال، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد 463، ص66.
[45] المرجع نفسه، ص71
[46] المرجع نفسه، ص70.
[47] انظر الرابط.
[48] انظر الرابط.
[49] انظر الرابط.
[50] انظر الرابط.
[51] انظر الرابط.
[52] انظر الرابط.
[53] انظر الرابط.
[54] انظر الرابط.
[55] والحقيقة الماثلة أن لا النظام الدولي ولا النظام الإقليمي مستعدان لاستيعاب وقبول كيان كردي مستقل في الشرق الأوسط. ومع ذلك فالأكراد لا يمكنهم أن يضمحلوا ولن يتلاشوا، بل سيبقون في المنطقة حيث وجدوا منذ آلاف السنين.
[56] من مفارقات الحالة الكردية في سورية أن عين العرب، حيث كان العرب الرحل يأتون صيفاً مع مواشيهم إلى المنطقة من وادي الرقة فكان النبع مصدر مياههم، هي تسمية أطلقها سكان المنطقة الأكراد على نبع يقع ضمن منطقتهم هم دون أي حساسية لغوية أو إثنية، وأن حسني الزعيم (الكردي الأصل) الذي قاد الانقلاب الأول في سورية شهد في عهده أول دستور ينص على أن "سورية جمهورية عربية". وبهذا الاتجاه  كرست مختلف الدساتير السورية التالية هذا التعريف الدستوري الذي بموجبه أصبح الأكراد أكثر حساسية تجاه الهوية العربية للدولة.
[57] من اللافت أن حزب البعث السوري بقيادة حافظ الأسد كان يستند في خطابة إلى الكرد السوريين إلى خطاب إسلامي لدمجهم في الجماعة السورية، وللحقيقة كان يفعل ذلك ليس من أجل المشاركة في الوجود السياسي عبر مفهوم الأخوة الإسلامي كما يزعم بقدر ما هو لأجل نمو سلطته ولأدائها الأمثل..
[58] وهو ما ليس له جذور ويناظر المجهول، حيث لا تعمل السلطة أياً كانت محلية أو استعمارية، إلا من خلال الافتراضي أو التمثيل، وبتطبيق هذا المعيار يستتبعه بالضرورة مستوى معين من الإرهاب، سواء إرهاب ناعم أو صلب: كونوا جاهزين للعمل، أي قابلين للقياس، أو اختفوا. راجع، جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات للنشر والتوزيع ، القاهرة، 1994، ص24.
عياد البطنيجي

باحث وكاتب فلسطينيّ.

مواد أخرى لـ عياد البطنيجي

ذات صلة