إشكاليّة "الشريعة" في خطابات الربيع العربيّ، حوار مع الدكتور معتز الخطيب

23 شباط/فبراير 2018
 
السؤال الأول: في ظل الثورات العربية والثورة المضادة، طُرح سؤال "الشريعة" التي تحولت إلى مصطلح غائم، فمع بدء الاحتجاجات طُرحت "الشريعة" في سياق مسار الانتقال من الأنظمة الوراثية إلى الأنظمة الديمقراطيّة الوليدة وعلاقتها بسؤال الحرية. وقد انهمك الإسلاميون والعلمانيين في هذا النقاش. ولما أُجهضت الثورات عاد سؤال الشريعة إلى الظهور ولكن بحِدة أكثر هذه المرة، وصار "الإصلاح الدينيّ" مطلباً للرجعيين قبل التقدميين والثوريين. برأيك - وأنت أستاذ الشريعة والأخلاقيات - كيف لعبت السياسة في تشكيل بنى خطابيّة للشريعة في عالم الربيع العربيّ وما بعده؟
إشكالية "الشريعة" كمفهوم وكخِطاب لا تقتصر على مرحلة الثورات العربية ومُفْرَزاتها، وإن كانت هذه الثورات حدثاً نموذجيّاً عَكَس -بوضوح- عمق المأزق. أما كون الإشكالية ليست وليدةَ الثورات فلأنها جزءٌ من مأزق "الأزمنة الحديثة" كما سأشرحه لاحقاً، وأما كون الثورات حدثاً نموذجيّاً فلأن الفعل الثوريّ والفعل المُضادّ للثورة فتحا المجالَ لأحداث ذات كثافة هائلة ومتوالية شملت رقعةً جغرافية واسعة (خمس دول) وفاعلين كثيرين ومتنوعين من علماء ومفتين ودعاة بعضهم من خارج الدول الخمس. وفي حين انصرف جلُّ الاهتمام للأبعاد السياسية والأيديولوجية ركزتُ من جهتي على الأبعاد الدينية والفقهية في عدد من الكتابات أبرزها دراستي "الفقيه والدولة في الثورات العربية: معضلة الفقيه في ظل الدولة الوطنية الحديثة" التي حلَّلتُ فيها الفتاوى والخطب والبيانات التي شهدتها الدول الخمس المؤيِّدة للثورات والمعارِضة لها على السواء للكشف عن أبعاد هذا المأزق في أجلى صوره الراهنة.

ويتمثل جوهر الإشكالية في مفهوم "الشريعة" نفسها وأشكال تَمَثلها سواءٌ بوصفها "مرجعاً تاريخيّاً" ينتمي لزمان معياري محدد، أم بوصفها "حكماً معيارياً" يُضفي الشرعية والمشروعية على الزمان الراهن، أي أننا أمام مستويين في تَمَثل الشريعة: تحديد مفهوم شريعة الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وتحديد ما ينتمي إلى هذه الشريعة وما لا ينتمي إليها في الزمن الراهن. وكلا المستويين يتأسس على تحديد المفهوم نفسه.

لم تكن لفظة "الشريعة" شائعة في الزمن الأول أي زمن تدوين العلوم الإسلامية، فمن اللافت مثلاً أننا لا نجد تعبير الشريعة أو الشرع في كتب تأسيسية مثل "الرسالة" و"الأم" للشافعي أو "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيباني أو في الكتابات المبكرة الأخرى، ولكنها تَرِد في بعض كتابات القرن الرابع الهجري تعبيراً عن الإسلام كدين قبل أن يتم اختزالها في الفقه أو البعد العملي منه (الحلال والحرام)، ولا أريد أن أُفيض هنا في تطور المفهوم تاريخيّاً؛ لأن سؤالك مرتبط بالراهن، والمأزق الراهن يتأسس على مبدأ نشوء الدولة القومية أو الوطنية (Nation State) مع الإقرار بأن ثمة ارتباكاً في تحديد ماهية هذه الدولة وطبيعتها ونسَبها، وأميل إلى تسميتها "دولة ما بعد الاستعمار"، فالشريعة اكتسبت أبعاداً سياسية وأيديولوجية مع نشوء الحركات الإسلامية في مواجهة التدخلات الاستعمارية من جهة، والصراع على السلطة مع التيارات العلمانية من جهة أخرى، ولكنها تُحيل - في الجوهر - إلى مفهوم "التشريع" الذي يتماهى مع الجانب التشريعي للدولة الحديثة، فالشريعة هنا تقابل التشريع الوضعي أو القانوني، وهو مفهوم حديثٌ نشأ مع غزو التشريع الأوروبي في القرن التاسع عشر، وقد كان محمد علي -مثلاً- مدفوعاً بعمليات التحديث الأوروبي وإنشاء مؤسسات تشريعية حديثة وتعريب القوانين الفرنسية وكانت حوله نخبة ممن يسعون إلى إمكان التأليف بين القانون الفرنسي والفقه الإسلامي في المسائل المرتبطة بالدولة وتشريعاتها، ولكن مع الاستعمار الأوروبي ستتبدل التصورات.

ما يعنينا هنا هو أن أطروحة "الدولة الإسلامية" (التي تنباها الشيخ حسن البنا وجماعته ثم أصبحت خطاباً عامّاً) تدور حول الدولة التي تحكم بالشريعة، أي أن مفهوم الشريعة هنا مفهومٌ لصيق بفكرة الدولة والجانب التشريعي فيها حصراً، ومن ثم ستبني جماعات التكفير والجماعات المنتسبة للجهاد فكرة تكفير الدولة والحكام بناء على أنهم لا يحكمون بما أنزل الله (الشريعة)، أي يشرّعون ويحكمون بالقوانين الوضعية في حين أن التشريع  -بحسب فهم هؤلاء- هو لله فقط.
 
 
فهذا المفهوم للشريعة ينتمي إلى سياق الدولة القومية ووفق منطقها الخاص، أي جَعْلها مُرادِفة للقانون (Law) ولذلك شاعت ترجمتها في دراسات المستشرقين بالقانون الإسلامي (Islamic Law)؛ لأن المستشرق يقوم بإسقاط جهازه المفهومي الحديث (Terminology) على تاريخ الآخر حتى يكون قابلاً للتَّمَثل والاستيعاب والتقريب في عملية التخاطب، أي أن الشريعة تحولت إلى "مدونة قانونية"، والغريب أن بعض الإسلاميين الأوائل استهجنوا نفي بعض المستشرقين غيابَ فكرة القانون في الشريعة (لتعدديتها الهائلة) فانهمكوا في إثبات أن الفقه قانونٌ؛ لإثبات أن الشريعة لا تتعارض مع فكرة الدولة الحديثة، أي أنه تم التسليم بأن الشريعة مدونة قانونية ومن هنا اتسعت فكرة تقنين الشريعة أيضاً. ولِلَمْلمة الفكرة رغم تعقيداتها لا بد من القول إن ثمة طرفين:

الطرف الأول هو التصور الاستشراقي (في شِقّيه: القائل بغياب فكرة القانون في الشريعة، والقائل إن الشريعة هي القانون الإسلامي) يهدف -في محصلة الأمر- إلى القول: إن الشريعة هي شريعة ما قبل الزمن الحديث؛ أي أنه يتصورها سرديةً تاريخيةً في حين أن القانون هو إنجاز حداثي صِرف لا يتلاءم مع مفهوم الشريعة كما تجسدت تاريخيّاً، ومن ثَم فالشريعة غير قابلة للاستعادة؛ لأنها تنتمي إلى العصور الوسطى، وهذا التصور أساسي في شرعنة فكرة الإصلاح التي تجعل من حركات الإصلاح هي المعيار والتنوير؛ لأنها تقترب من النموذج الأوروبي واستجابت لحداثته وهذا هو مصدر شرعيتها.

الطرف الثاني هو تصور الإسلاميين من حمَلة مشروع الدولة الإسلامية بصيغه المختلفة وهو التصور الذي استجاب عمليّاً- بوعي ومن دوعي- لفكرة الحداثة ومركزية القانون؛ لأن مشروعه قائم على فكرة الدولة أصلاً، ومن ثم تم اختزال الشريعة في الفقه، ثم تم اختزال الفقه في الجانب القانوني منه، أي أن الشريعة هنا خطابٌ من أجل الدولة حتى تكون "إسلامية"، والدولة - بطبيعتها - ذات منطق شامل يستوعب كل المجالات ويتحكم بها؛ لأنها في التصور الليبرالي هي الدولة – الأمة التي تقوم على حقوق الأفراد متجاوزةً للوسائط الأخرى (الأسرة مثلاً)، وفي التصور الاستبدادي هي دولة شمولية تستأثر بتنظيم المجال العام وتتحكم بتفاصيل حياة الأفراد الذين هم ملك للدولة/النظام الحاكم، بل حتى في التصور اليوناني لأفلاطون هي الدولة المدينة (City State) التي يتحكم بها طبقة الفلاسفة الذين يحملون الناس على الفضائل؛ لأن المدينة هنا تقوم على التراتبية الطبقية بحسب تفاوتهم في العقلانية.

وبناء على ما سبق قلتُ إن الحركات الإسلامية - عامةً - هي خروج على التقليد الإسلامي (Tradition)؛ لأنها حركاتٌ حديثةٌ من جهة مراهنتها على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارتها للتقنيات والوسائل والمفاهيم والصيغ الحديثة، كما أوضحت في كتابي "العنف المستباح" أن استعادة تلك الحركات للمكونات التراثية هي استعادةٌ حديثة؛ بما هي استعادة تأويلية في سياق حداثي، أي استعادة وفق شرط الراهن وبمعايير النموذج المهيمن (الغربي هنا)، وشعار "تطبيق الشريعة" هو أبرز تجليات حداثة هذه الحركات؛ لأنها حوّلت الشريعة إلى سلطة تقنين، والقانون قائم على سلطة الإلزام والضبط القهري، والأخلاقي ثانوي في القانون؛ لأنه ليس يُشترط في القانون أن يكون أخلاقيّاً كما لا يُشترط فيه أن يكون معقولاً أو أن تتوفر فيه صفة القناعة الذاتية حتى يتحقق الامتثال له، والقانون يسعى لضبط ظواهر الناس وحملهم على مقتضاه؛ لأنه قانون دنيوي لا يستند إلى أي تصورات ميتافيزيقية أو ثيولوجية، وهو يهتم بتصحيح الصيغة أو الصورة الإجرائية.

أما الشريعة فهي أوسع من ذلك بكثير؛ فالجزء القهري منها هو جزءٌ محدود للغاية وهو ما يشمل الجانب "القضائي" القائم على التخاصم والتنازع (ومن هنا التفريق بين الدياني والقضائي، والحكم والفتوى)، أي أن القهريَّ مخصوص بحقوق الآخرين ما لم يتنازلوا عنها أو يتسامحوا فيها أو بالحق العام الذي يقرره الشارع. والأخلاقي لا ينفك عن الشريعة؛ لأنها مُعلَّلة بمصالح العباد في الدارين: الدنيا والآخرة بل الدنيا من أجل الآخرة، وهي تسعى إلى تعبيد الناس لله ظاهراً وباطناً أو بتعبير الإمام الشاطبي: "حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً"؛ لأن ثمة أبعاداً أخرى في الشريعة تدور على التصورات العقدية والعملية المنضطبة بمنظومة أخلاقية (القبول، والجزاء، والعدل والإحسان، وحقوق العبد وحقوق الله والحقوق المشتركة بينهما).

والأهم في هذا السياق أن الشريعة ليست قانوناً وليست فعلَ السلطة أو تشريعَها ولا تشريعَ فئة من الناس، بل هي نتاج امتزاج التجربة التاريخية وتفاعل الجماعة المسلمة مع النص/الوحي. وعملُ الفقيه لا يُعد تشريعاً بالمعنى الحقيقي؛ لأنه لم يكن يتم بمعزل عن تَمَثل الفقيه الفرد والجماعة العلمية لخطاب الشارع ومقاصده (السلطة العلمية: نصّاً ومدارسَ فقهية)، ولا بمعزل عن الممارسة الاجتماعية الحية (Living Tradition)، فالمعرفة الإسلامية تَشَكلت بناءً على تفاعل مستمر بين النص وحركة الجماعة المسلمة، ومفهوم "المعروف" مفهوم أخلاقي مركزي يُحيل إلى الممارسة الاجتماعية التي تتشابك فيها أبعاد مركبة: ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية؛ لأنه لا بد من التذكير بأن تَشَكل الجماعة الأولى تَم بناء على نص الوحي ومن حوله، وأن القرآن كان محور تَشَكل المعارف والعلوم لخدمته وفهمه (وإنه لَذِكرٌ لك ولقومك)، ومن ثَم أَمكَنَ لبعض المؤرخين القول: إن الحضارة الإسلامية حضارة نص. واستطراداً لا بد من التنبيه إلى أن هذا الحديث عن "المعروف" هو قبل نشأة المفهوم الحديث للمجال العام (Public Sphere) وقبل تَشَكل الدولة الحديثة التي تنطوي على أدوات ضخمة للتحكم بالمعروف والتلاعب به وصياغة الرأي العام وفق مصالح نخب ضيقة مالية أو سلطوية.

هذا السعي المحموم إلى الضبط والتقنين هو من صلب فكرة الحداثة بينما اتسم تراثنا عبر قرونه بالثراء والتنوع حتى في تفسير النص القرآني الذي يحفل بتعددية في المعنى لا تتواءم مع مقتضيات فكرة الدولة الحديثة التي لا تستطيع أن تتعايش مع هذه التعددية في تشريعاتها وقوانينها وتنظيماتها؛ لأنها تقوم على التنميط ومَرْكَزة السلطة. فإذا كانت الدولة (الكائن السياسي الحديث) ترى أن تعريف وتحديد الوجه العام المقبول للدين هو من صميم عملها؛ لأنها - وحدها - التي تستأثر بتنظيم المجال العام، فإن الحركات الإسلامية السياسية -سلمية كانت أم عنيفة- تطمح إلى الشيء نفسه عبر تحويل الشريعة إلى قانون مُلزم، وعبر حَمل الناس قهراً على مقتضى ما تراه هي شريعة من خلال الوصول إلى جهاز السلطة والتغيير من أعلى وبأدوات الدولة الحديثة وإمكاناتها المُغرية في التغيير؛ لتقريب المثال إلى الواقع أو رفع الواقع إلى المثال المُتخَيَّل.

فالمأزق الذي نبحثه يتمثل في "الأزمنة الحديثة" التي تبدأ بمرحلة التنظيمات العثمانية (1839-1876) التي ابتدأت عمليةَ التحديث، مروراً بسقوط الخلافة سنة 1924 وصولاً إلى ما سُمي "الدولة الوطنية" ومفرزاتها، وهو ما أدى إلى بروز أربعة خطابات للشريعة كما رصدتُها في دراساتي، وهي: الفقيه الحركي (ما سُمي "الإسلام السياسي") والفقيه الكلاسيكي (فقيه التقليد المذهبي والمؤسسات التعليمية) وفقيه الدولة وفقيه الجهاد (جماعات العنف)، وتسمية فقيه هنا تَجَوُّز؛ لأننا لو اتبعنا التقليد العلمي وشروطه لا يسمى أيٌّ من هؤلاء فقيهاً على الاصطلاح. وهذه الخطابات تعكس مأزق استعادة شريعة ما قبل الأزمنة الحديثة في الأزمنة الحديثة، ولهذا اضطرب الوعيُ الفقهيُّ وانقسم الوعيُ العربيُّ بين إسلاميين وعلمانيين، وجوهر الانقسام يكمن في التحاكم إلى نموذج معياريّ ثابت في الغرب (الدولة الحديثة) أو في التراث (الشريعة).

وفكرة التحاكم إلى نموذج معياريّ عَنَت الاقتباس والنقل عن الغرب أو التراث، ولكن التيار العامّ (وهو الفقه الحركي الذي تحول إلى ثقافة عامة) سلّم بنموذج الدولة الحديثة وسعى إلى أسلمتها والمزاوجة بينها وبين إرثه الإسلامي، ومن هنا أخذت استعادة الشريعة مداخل مركزية تلخصت في بناء فكرة "النظام الإسلامي" في أبعاده المتعددة وأبرزها السياسيّ والاقتصادي والقانوني في محاولة لبناء فكرة الدولة الإسلامية على شاكلة الدولة القومية، ومدخل المقاصد والمصالح لتوسيع الاجتهاد الفقهي ليواكب الحياة العامة والأزمنة الحديثة. فالشريعة هنا فقدت دورها كفاعل اجتماعيّ لمصلحة الدولة الحديثة، وتحولت من فعلٍ للجماعة المسلمة إلى فعلِ جماعةٍ محكومة بتصورات أيديولوجية حزبية، أي أن وظيفة الشريعة أضحت إضفاء الشرعية على مشاريع الدولة/النموذج بالنسبة للفقيه الحركي، أو على الخطاب الديني المُدافع عن الأنظمة والمضاد للفقيه الحركي من قبل فقهاء الدولة.

فالفقيه الحركيّ سلّم بالدولة كنموذج وحيد ونهائيّ لممارسة السياسة والسلطة وقام بالكثير من المواءمات عبر بوابة "الاجتهاد الانتقائي" وتحوير المفاهيم وإسقاط المفاهيم الحديثة على التاريخ، وقد أظهرتْ تحولاتُ الخطاب تلاؤمية كبيرة للتصالح مع النموذج الحديث حتى غدت دولة المدينة أول دولة حديثة ومدنية، وغدا إنشاء الدولة ضرورة دينية، وغدت مفاهيم الحريات والدستور وغيرها جزءاً أصيلاً من التراث الإسلاميّ والديمقراطية مرادفة للشورى والانتخاب شهادةً إلى غير ذلك من اختراع فرائض دينية جديدة كفريضة الانتخاب في حالات معينة وفريضة إقامة الدولة.

أما الفقيه الكلاسيكيّ فقد ظل وفيّاً لتراثه التاريخي ولم يُقم اعتباراً لمتغيرات الأزمنة الحديثة وتأثيراتها إلا في نطاق ضيق، فبقي مفصولاً عن الواقع ومتصلاً بالتاريخ، في حين تحول فقيه الدولة إلى موظف في جهاز الدولة وقام بإسقاط الموروث الفقهي (ما قبل الدولة) على الدولة حتى حاز رئيس الدولة ونظامها الحاكم كل حقوق "الإمام" (هو في التصور الكلاسيكي منصبٌ سياسي ودينيّ) من السمع والطاعة وكل الواجبات الدينية بل قد يتسمى أمير المؤمنين أيضاً ويترأس أو يحضر الشعائر الدينية ذات الطابع العمومي أو الجماعي (الأعياد والجُمَع وغيرها)، أي أن المؤسسة الدينية الرسمية هي واحدة من مؤسسات الدولة وتخضع لهرميتها وتأتمر بأمرها وتتموضع ضمن وظائفها، فهي تحضر لشَرْعنة خيارات الدولة السياسية المتقلبة، وهو ما أوقعَ رموز المؤسسة الدينية في ثلاث خطايا:

الأولى التناقضات الفجة التي تجعل من الشيء نفسه حلالاً مرة وحراماً مرة أخرى، والثانية أن المفتي الرسمي تحول إلى مفتٍ عند حاجة السلطة لفتواه فيحضر ليؤدي وظيفته الحكومية، والثالثة أن المفتين الرسميين غادروا لغة الفقه إلى لغة السياسة، وخطابهم خطاب سلطوي لا يتوجه إلا إلى عموم الناس؛ لأنهم يمثلون أداة السلطة في إخضاع الجمهور بالقوة الدينية كما أن أجهزة الأمن والشرطة تتولى إخضاعه بالقوة المادية. الفقيه الرابع هو فقيه الجهاد الذي وقف في مواجهة العالم بأسره لإقامة الحكم الإسلامي على أنقاض الأمم المتحدة ومنجزات الأزمنة الحديثة، ليستعيد الخلافة أو الإمامة على صورتها التي يفهمها هو بطريقة شكلانية شديدة الحرفية لا كما كانت في التجربة الإسلامية التاريخية منظومةً قانونية ودستورية وأخلاقية.
 
السؤال الثاني: يشهدُ الإسلام اليوم نوعاً من إعادة التشكل بما يتخللها من التخلخلات والتمفصلات مما لم يشهده من قبلُ ربما، وفي هذا الإطار غَدَت العلاقات البنيويّة القائمة بين استثمار الدينيّ في حقل السياسيّ والعكس محطّ اهتمام عالميّ ولاسيّما مع الحركات المقاتلة - إذا ابتعدنا عن الوصف غير الدقيق "الجهاديّة- التي عبّرت هي نفسها عن تشظيات في داخلها وظهور طفرات جديدة من الوعي القتالي الذي يستخدم الإسلام أجندةً لتبرير مرتكزاته الأيديولوجيّة. ما أقصده ليس أنّ هؤلاء يسيئون فهم الإسلام أو أنّهم يُحسنون فهمه، فهذه - كما تعلمون - صيغة غُفل للصراع القائم على الإسلام - إذا استعرنا عنوان كتابٍ لرضوان السيد- تقوم على افتراض مغلوط بأنّه يجب إنقاذ الإسلام عبر تقديم سرديّة وسطيّة له. في هذا التيه السياسيّ، وبناء على دراستك للعنف في كتابكَ العنف المُستباح، كيف يمكن الخروج من ثنائية العنيف والوسطيّ من الإسلام؟ وهل تنطوي هذه الاستراتيجيّة نفسها على عنف من حيث إنها تحصر الإسلام بل والمسلمين بين خيارين: إمّا أن يكونوا على شاكلة الليبراليّة الغربيّة، أو هم "دواعش" ولو أعلنوا البراء منها ليل نهار؟

في الواقع تَحَول الإسلام -مع تعدد الخطابات التي أشرتُ إليها -إلى مشكلة، فالسلفية أصبحت سلفيات، والصوفية صوفيات، والمؤسسات الدينية الرسمية اصطبغت بتوجهات وبنية كل نظام سياسي تنتمي إليه، هذا فضلاً عن المؤسسات والهيئات الدينية غير الرسمية والشخصيات الفردية الفاعلة في المجال الديني، أي أن التقليد (Tradition) الذي أَزعج الإصلاحيين منذ نهايات القرن التاسع عشر قد تَحَطم - في الواقع - ولكن من دون قيام مشروع الإصلاحيين، وتوقفت الشريعةُ عن أن تكون "ممارسة خطابية" - لو مشَينا على تعبير ميشيل فوكو الذي استعملتَه في سؤالك الأول -؛ وذلك لأن البنى الاجتماعية التقليدية لم تَعد موجودة مع نشأة الدولة ومؤسساتها وأدواتها التي تمتلك إمكاناتٍ هائلة في التحكم والتلاعب والصياغة.

صحيحٌ أن دولنا هذه ليست دولاً حديثة بالمعيار الأوروبي/الأصل، ولكنها ليست دولاً وفق النموذج التاريخي/التراث أيضاً، ومع غياب الدولة والمجتمع وتَغير الشروط التاريخية تبدلت ذاتية الفرد، ومن هنا سيطر في كثير من الحالات ذاتية منغمسة في الحداثة - دون أن يعني ذلك أنها حداثية بالضرورة - عبر تَحَول الفهم الديني إلى فهم فردي واجتهاد فردي وتتراكم الاجتهادات والمشاريع الفردية من دون توفر سياق يؤدي بها إلى صناعة تقليد جديد بديل عن ذلك التقليد الذي تم تَحطيمه (على أيدي الاستعمار الأوروبي والإصلاحيين ثم السلفيين والحركيين)؛ ولم ينشأ تقليد جديد لعوامل عدة من بينها حالة الصراع الأيديولوجي والانقسامات وغياب الإطار السياسي والاجتماعي الذي يسمح بمثل هذا التراكم، إذ ما زال الصراع قائماً على الدين والدولة.

أيضاً لا بد من القول: إن جهاز الدولة فرَض نشوء مجالات وأدوار لم تكن من قبل؛ بفضل طبيعة جهاز الدولة ووظائفها، ومن ثم فإن هذا التمييز بين الخاص والعام، والديني والسياسي لم يكن بهذا الوضوح المفتَرض؛ ذلك أن مفهوم الديني ومفهوم السياسيّ محل إشكال كبير بالنظر إلى ما قبل الدولة وما بعد الدولة، ففي التصور اليوناني الذي استعاره بعض فلاسفة الإسلام تمحورت السياسة حول المعنى التدبيري بوصفها جزءاً من الحكمة العملية التي تنقسم إلى تدبير النفس (الأخلاق) وتدبير المنزل وتدبير العامة (السياسة)، وهو تصورٌ قائم على مركزية الحكمة النظرية (الفلسفة) التي تتولى عملية التدبير؛ لكونها تمثل ذروة العقلانية وهذا كله مرتبط بفكرة الدولة المدينة التي يحكمها الفلاسفة؛ لأنهم ربطوا بين النفس والمدينة، فكما أن النفس تقوم على ثلاث قوى (العاقلة، والشهوية، والغضبية) فكذلك الدولة المدينة تقوم على ثلاث طبقات، وكما أن القوة العاقلة تتحكم بالقوتين الأخريين فكذلك طبقة الفلاسفة تتحكم بالطبقتين الأخريين (الجنود، والعمال والصنّاع).

وفي مقابل مركزية العقل البشري في التدبير اليوناني، نجد أن التفكير الإسلامي قام على مركزية الأمر الإلهي الذي يجسده النص، ومن ثم فالسياسة تقابل الشريعة؛ لأن الأدب أدبان: أدب سياسة وأدب شريعة - كما نقل الماوردي - فالسياسة تتحرك في المساحة التي لا نص فيها ولكن في أفق المصالح المرعية للشارع، والشريعة تتحرك في نطاق النص والفرائض الدينية، ولكن مع ذلك فإن الفقهاء انشغلوا كثيراً بالتنظير لمساحات تتصل بالشأن العام مما يدخل في السياسة بالمفهوم الحديث (الأحكام السلطانية، وأحكام الخراج والأموال، وفروض الكفاية، ...)، لأن الأمر الإلهي مركزيّ يدور معه مفهوم الشريعة التي تخاطب الفرد المكلف سواءٌ كان حاكماً أم محكوماً؛ لأنها تدور على الفعل الإنساني الذي تشمله الأحكام الخمسة (الواجب، والمندوب، والمكروه، والحرام، والمباح)، ولكن تحديد المعنى المراد أو تَعَيّنات هذا الأمر عبر التاريخ كان يتم عبر تفاعل الجماعة مع النص والتاريخ كثنائية المبدأ الثابت والوسائل المتغيرة، أو القيمة الأخلاقية وصيغة الحكم، وعبر تركيبة الفعل الإنساني وسياقاته المتغيرة التي تؤثر في صياغة حكم من الأحكام الخمسة تجاهه.

أما في الزمن الحاضر فإن الديني والسياسي محل إشكال كبير، فالسياسة تتناول أبعاداً مركبة تتصل بماهية الفعل السياسي كفعل للحكم، وبالمشاركين في صناعة الفعل السياسي (الأحزاب، الجماعات، مؤسسات الحكم)، وبالأبعاد الاجتماعية باعتبار الفعل السياسي ممارسة سياسية، وبظاهرة الدولة وطبيعتها وميدان نشاطها، والأهم أن المفهوم الحديث للسياسة يستلزم حقلاً مفهوميّاً يتضمن (السلطة، المجتمع، النظام، الفاعلين الجدد، الساسة ...) وهذه تشكل ما نسميه بالخطاب السياسيّ، وهذا المفهوم من شأنه أن يتغول على مفهوم الديني الذي تحول بالمفهوم الحديث إلى نطاق الخاص والدائرة الفردية، بل حتى هذا قد تتدخل فيه السياسة إذا ما خرج إلى المجال العام أو تقاطع معه، أي أننا عمليّاً أمام تضخم السياسي وانحسار الديني في التصور الحديث مما يجعل من ذلك التمييز تمييزاً تفرضه الفلسفة العلمانية، وعلى كل حال فإن مشكلتنا الواقعية في دولنا هي تغول الدولة على الدين، ومطلبنا الرئيس هو تخليص الدين من الدولة والحركات الحزبية.

أما بخصوص ثنائية الوسطي والعنيف، فهي ثنائية مشكلة؛ لأن طرفيها يقعان في نطاق الزمن الحديث وفي تفاعل معه سلباً أو إيجاباً، فالموقفان الوسطي والعنيف هما نتاج الأزمنة الحديثة؛ فكلٌّ منهما يعبر عن شكل من أشكال التلاؤم مع الدولة الحديثة التي لديها نزوع دائم لتشكيل الأفكار وإدارة الناس في حياتهم وموتهم، وأجزاء من هذا كانت من اختصاص جهات أخرى في التاريخ الإسلامي في مرحلة ما قبل الدولة وتنظيماتها الضابطة (الفقهاء والقضاة وأصحاب الأصناف والصنائع وتشكيلاتهم ...). وجميع الخطابات السابقة للشريعة يراهن على الدولة بشكل مركزي كأساس للسلطة ومصدر للضبط والتشريع واتخاذ القرار بطرائق إما كانت غير مقننة قبل الدولة الحديثة أو كانت مَنوطة بأطراف أخرى كالفقهاء والمفتين والقضاة وغيرهم، فلما جاءت الدولة الحديثة استولت على تفاصيل هذه الشؤون وتجاوبت معها تلك الحركات في مشاريعها ورؤاها وإن اختلفت مرجعياتها وأفكارها.

فالوسطي هو انتقائي بناء على معيار ما يراه أوفق للزمن الحديث وبمعايير الغرب المهيمن، والعنيف يخوض معركةً مع الغرب ولكن عبر أدواته ومسحوراً بدولته، فحتى تنظيم الدولة الإسلامية رغم أنه أعلن الخلافة حافظ على فكرة الدولة في تسميته!. وجوهر الإشكال هنا ليس إحسان أو إساءة فهم الدين، بل تحطم التقليد من جهة، وشكل استعادة شريعة ما قبل الأزمنة الحديثة في الأزمنة الحديثة، وعمليّاً الوسطي والعنيف كلاهما انتقائيّ واجتزائي؛ لأن مفهومهما للشريعة محل إشكال كما أوضحتُ، ذلك أن الشريعة تُستَدعى بوصفها عناصر أو مكونات منتقاة بشكل لا تاريخي سواءٌ كانت سلمية أم عنيفة، وجزءُ الشيء ليس هو الشيءَ نفسه، وقد أوضحت في كتاباتي كيف أن الشريعة في الأزمنة الكلاسيكية تشكّل "نظاماً"؛

فعلى المستوى النظري تشتغل بطريقة علائقية أو شبكية موزّعة على أصول وفروع وفروق وقواعد ومقاصد وتخريج الفروع على الأصول وتخريج الأصول على الفروع، وكل ذلك إنما تَشَكل في ظل نظام سياسيّ (الخلافة) واجتماعي واقتصادي مغاير لنظام الأزمنة الحديثة، ولذلك لا يمكن النظر في مسألة جزئية بمعزل عن السياق المؤسِّس لها وبمعزل عن الفروع المؤسَّسَة عليها، وغياب فكرة النظام هذه عن الممارسة الفقهية في الأزمنة الحديثة أوقع الفقه الإسلامي في مآزق وتناقضات جوهرية إما نتيجة الاتصال بالأزمنة الحديثة أو نتيجة الانفصال عنها، وعن هذا نشأت اختلالات كثيرة طوّعت الفقه الإسلامي للاستثمار من قبل الأنظمة السياسية وفقهائها ومن قبل الحركات الإسلامية السياسية وفقهائها، تارةً باسم المقاصد والمصالح وأخرى باسم الدفاع عن "الدولة" وثالثة باسم "الفتنة" وغير ذلك مما تناولته في كتاباتي.


السؤال الثالث
: كثيراً ما تم استدعاء المقاصد باعتبارها التجديد الإسلاميّ المنشود، لقد قُدّمت عبر صِيغ مختلفة بوصفها أداةً لحلّ المشكلة التي وصّفها بدقّة - كما أعتقدُ- البروفيسور أبو يعرب المرزوقي في حواريّته مع الشيخ البوطيّ حول تجديد أصول الفقه (٢٠٠٦) حينما قال: إنّ المقاصد بزغت بوصفها حلّاً لمعضلةٍ صورتُها: نصّ محدود (قرآن وسنّة) مع وقائع غير محدودة. أي أن المقاصد هي حلّ لمعضلة أصوليّة بالأساس تتصل بالوقائع التي تقع للمسلمين مع وجود نصوص محدّدة متمثّلة في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة. أما في العصر الحديث فقد استُدعيت المقاصد بصورة أوسع لفتح باب الفتوى والجواز إلى أمور لم تكن قد وقعت من قبل، وصُدّر "المقاصديّون المعاصرون" بوصفهم دعاة للوسطيّة في العالمين الإسلاميّ والعربيّ، بل وغربيّاً. إلى أيّ حد أفلحت المقاصد في فتح باب الاجتهاد إذا ما قلنا إنه كان مُقفلاً؟ وهل تعاني المقاصد نفسها من مشاكل، ولاسيّما في الاستدعاء المعاصر لها؟

خصصتُ لموضوع المقاصد عدة دراسات وشرحت - صوتيّاً - معظم كتاب "الموافقات" للشاطبي، وكان دافعي لذلك إيضاحَ حجم توظيف الفكرة بمعزل عن الأئمة المؤسِّسين لها، بمعنى أن استعادة المقاصد - أو "اكتشافها" كما يحب بعضهم القولَ – هي استعادةٌ حديثةٌ أيضاً بدأها الإصلاحيون في أواخر القرن التاسع عشر، ثم الحركيون بعد ذلك وأصبحت فكرةً شائعة منذ تسعينيات القرن العشرين. وهذه السيولة المقاصدية ساهمت - عمليّاً - في إفقار المعنى والتباسه على العكس مما هو متوقع أو مُفتَرض؛ لأن عوامل عديدة باتت تؤثر في حديث المقاصد، وكثيرٌ منها يدور خارج حدود المعرفي (الأبستمولوجي)، أي أننا مجدَّداً أمام استدعاء للفكرة خارج مجالها الذي نشأت فيه مع كثيرٍ من الوعود أو الادعاءات؛ لأنها لم تَعد موضوعاً أصوليّاً (من أصول الفقه) فقط، بل اقتحم مجالَها علمانيون لتجاوز النص/الوحي ومنازعة الإسلاميين، وعلماءُ اجتماعيات وأصحابُ تخصصات أخرى؛ بهدف إخراجها من ميدان الفقه وأصوله باعتبارها "نظرية معرفية".

أما في حقل الدراسات الإسلامية فالأمر أصبح واسعاً جدّاً، وتحولت إلى مادة تدريسية في العديد من الجامعات، ويمكننا الحديث عن أشكال عدة لحضور المقاصد في الدرس الفقهي في حقل الدراسات الإسلامية، ولكن التيار الرئيس الذي يستعمل المقاصد هو تيار الإخوان المسلمين. وفي إطار هذا الأفق الواسع من الشيوع والاستثمار سادت مسلّمات عديدة حول المقاصد دون أن تكون علمية بالضرورة.

سبق لي أن رصدتُ في دراسة نُشرت سنة (2007) ثلاث مراحل رئيسة مرت بها "الوظيفة المقاصدية": الأولى مرحلة النشوء منذ القرن الخامس الهجري في سياق البحث عن تضييق الخلاف الذي أحاط بعلم أصول الفقه (أمّ العلوم في نظرهم)؛ إذ حالةُ العلم آلت إلى توسيع الخلاف بدل تضييقه، فبرَزت فكرة المقاصد في سياق البحث عن اليقين وإعادة صياغة الأصول على أسس قطعية، ولذلك لم يكن غريباً أن يفترض الجويني انقراض المجتهدين والأئمة وبقاء أصول الشريعة لدى العامة، وأن يبدأ الشاطبي كتابه بالحديث عن القطعية في أصول الفقه. المرحلة الثانية: مرحلة الاستثمار أو الاكتشاف في القرن التاسع عشر مع بعض علماء تونس ثم محمد عبده ومدرسته في سياق التفكير في الإصلاح الديني في الزمن الحديث وقد تم استثمار فكرة المقاصد في بناء فكرة الشأن العام وشرعنة الاقتباس عن الغرب وتجاوز التقليد الذي تَحَول إلى مشكلة في نظر هؤلاء، والمرحلة الثالثة مرحلة الحركيين الذي وظفوا المقاصد لاستكمال بناء النظام الإسلامي الشامل والخروج من أفق القياس الفقهي، أي لتوسيع مساحة المباح والتكيّف مع مستجدات الأزمنة الحديثة والتحولات الداخلية في إطار دولة ما بعد الاستعمار والتواؤم مع الغرب من جهة وبناء المشروع السياسي من جهة أخرى.

ويمكن لي أن ألحظ في العقد الأخير الذي أَعقبَ دراستي توجهاً مقاصديّاً من خارج تخصص الدراسات الإسلامية يحاول تجاوز الفقه نفسه إلى فضاءات أخرى، فضلاً عن توظيف المقاصد في الصراع السياسي بين فقهاء الحركة وفقهاء الدولة أثناء الثورة والثورة المضادة.

أما تشخيص المشكلة في أن المقاصد برزت حلّاً لمعضلة أصولية هي تَنَاهي النصوص وعدم تَنَاهي الوقائع فهو تشخيص غير دقيق؛ لأمرين:

الأول: أن هذه الحجة هي واحدة من الحجج الرئيسة لشرعية القياس الفقهي وليس المقاصد، وهنا تحضر المسألة المشهورة في كتب الأصول وهي: هل تُحيط النصوص بحكم جميع الحوادث؟ ذهب القِياسيّون إلى أنها غير مُحيطة؛ لأنهم أرادوا التأسيس لضرورة القياس الجزئي على اعتبار أن الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية، ومحالٌ أن يُحيط المتناهي باللامتناهي. أما الظاهريةُ الذين أنكروا القياس فقد رأَوا أيضاً أن النصوص غير محيطة وأنكروا التعليل والحِكَم ولكنهم أثبتوا مساحة العفو (الفراغ التشريعي)، ولمّا أعجَزَتهم النصوص لجؤوا إلى توسعة الظاهر واستصحاب الأصل. ولكن في مقابل هؤلاء اعتبر ابن تيمية وابن القيم هذا الاحتجاج فاسداً؛ لأنهم رأوا أن جوهر الإشكال يقوم في معاني "النصوص العامة" أي في الكليات والقواعد العامة التي تتناول أنواعاً كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعياناً لا تُحصى، ومن هذا الوجه استدلا - ببراعة - على أن النصوص مُحيطة بأحكام أفعال العباد؛ لأن الأنواع محصورة وتستوعب الأعيان غير المحصورة، ومن ثم ضيّقوا مجال القياس وتوسعوا في مجال الاستدلال بالنص كما هو مذهب أحمد. وهذا الانتقال من الجزئي إلى الكلي في غاية الأهمية وقد عالجتُ طرفاً منه في دراستي "آيات الأخلاق" والكلام فيه يطول.

الأمر الثاني: أن المقاصد لا تتأسس إلا على النص/الخطاب؛ لأننا نتحدث هنا عن مقاصد الشارع لا مقاصد سواه (بعض المقاصديين المعاصرين لو اختبرتَ خطابهم تجدهم مدفوعين بمقاصد الحداثة أو الإنسان الحديث!)، ولا سبيل لمعرفة مقاصده - سبحانه وتعالى - إلا من خلال كلامه: أمراً ونهياً، وحثّاً وتنفيراً، وترغيباً وترهيباً، إلى غير ذلك من معاني الخطاب التي تَوَسع فيها - ببراعة - الإمام العز بن السلام.

فالمقاصد -في الأصل- جزءٌ من مبحث العلة من باب القياس في علم "أصول الفقه"؛ ثم جاء الشاطبي وأَفردها بالتصنيف ووسّعها حتى شَكّلت نحوَ ربع كتاب "الموافقات" الذي قسمه إلى: المقدمات، والأحكام، والمقاصد، والأدلة. ولكن الإصلاحيين والحركيين والمشتغلين بالمقاصد من المعاصرين انشغلوا بمبحث المقاصد فقط من الكتاب، حتى إن بعضهم عَزَله عن باقي الكتاب؛ رغم أنه جزء من نسق كلي في تفكير الشاطبي، وبعضٌ آخر عزل كتاب "الموافقات" عن كتاب "الاعتصام" للشاطبي نفسه، وهي توجهاتٌ تعكسُ مقاصد قُراء الشاطبي أكثر مما تعكس فكر الشاطبي نفسه.

فالمقاصد تقوم على التعليل بالمصالح، ولكنها المصالح المعتبرة للشارع نفسه وفق قانون أصول الفقه، أي أن فكرة المقاصد كانت جزءاً من القياس الذي هو توسيع لسلطة النص ليشمل الوقائع غير المتناهية، وهذا مبني على مسلّمة هي أن لله حكماً في كل واقعة، وهذا الحكم إما أن يكون في النص دلالةٌ عليه بعينه أو لا يكون فيه دلالة عليه بعينه فيتم إدخاله في النص عبر آلية محددة هي القياس القائم على التعليل بالمصالح عند جمهور الأصوليين. ولكن لا بد من توضيح أن القياس ليس من تصرفات العقول المحضة في نظر الأصوليين، وإنما "تَصَرَّفت فيه من تحت نظر الأدلة الشرعية، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد" كما يقول الشاطبي نفسه الذي يُنكر استقلال العقل في هذا. ولكن كثيراً من المقاصديين المعاصرين اقتبسوا فكرة التعليل بالمصالح هذه بمعزل عن قواعد الشاطبي وضوابطه؛ لأنهم وظفوها للخروج من منطق القياس الجزئي المنضبط الذي لم يَعد مُلائماً لمواجهة متغيرات الأزمنة الحديثة، بل قد سرَت فكرة المصالح الموسّعة هذه إلى غير المقاصديين أيضاً من الوهابية في مسائل تتصل بأنماط حديثة تتناول عمليات التجميل والجينوم ومسائل السياسة وصراعاتها، أي أنه تم توسيع المصلحة حتى باتت غائمة وغير منضبطة بمعايير الفقهاء وغلَبت مصالحُ الناس على مصالح الشارع؛ لأن مرجعية تحديد ما هو مصلحة هو الأزمنة الحديثة لا خطاب الشارع، وسلطة تقدير المصلحة باتت تتوزع على أطراف عدة يُشكل النظام السياسي أحياناً أحدَها.

بناء على ما سبق كله، يتضح أن المقاصد ليست حلاًّ بل أصبحت جزءاً من المشكلة؛ لأن اعتبارها حلاًّ مبنيٌّ على تشخيص معين للمشكلة من جهة، وللوظيفة المَنُوط بالمقاصد أداؤها أو الإمكانات المُودَعة فيها (Potentiality) من جهة أخرى، وبتصور محدد لواقع الفقه وعلاقته بالمقاصد من جهة ثالثة، وهناك مشكلاتٌ في هذه الثلاثة كما أوضحتُ هنا بتكثيف شديد؛ وللأسف ليس لدى كثير من الدارسين للدراسات الإسلامية معرفةٌ عميقة بأصول الفقه كنظام معرفي (Epistemology) ولا بتاريخه الذي يتشابك مع سياق تاريخي خصب (Historical Context) ويتداخل مع معارف وعلوم متعددة أبرزها الجانب الميتافيزيقي (Theological) واللغوي (Linguistics) والنظرية القانونية (Legal Theory) والجانب الفلسفي (Philosophical Reasoning) وقد سبق لمصطفى عبد الرازق أن اعتبر علم أصول الفقه هو الفلسفة الإسلامية الأصيلة.
 
السؤال الرابع: لعقودٍ من الزمن انشغلَ الفكر العربيّ بقضايا التراث والحداثة، لكن الملاحظ أنّ ثمة فتوراً اعترى هذا المبحث دون أن يعني ذلك أنّ مشكلة التراث قد وجدت حلّها النهائي - كما يقول طه عبد الرحمن-. ثمّ انتقلَ الفكر الإسلاميّ بعد ذلك إلى التداوليّة في تناوله المعرفة وحقوق وواجبات المتكلم والمخاطب. والتي فترت أيضاً ربما بسبب أنّ هناك شكوكاً تعتري البعض حول إمكانيّة بناء فعاليّة على التداوليّة، والآن يشهد الحقل الإسلاميّ نقلة جديدة هي مبحث الأخلاق؛ إذ صار يُقرَأ الإسلام على أنه خطاب أخلاقي. ما الفوارق وعوامل الاتصال والانفصال فيما بين التداوليّة والتراث والأخلاق؟ وفي إطار انشغالكم السابق بالتداوليّة وانشغالكم اليوم بمبحث الأخلاق: هل يمكن للأخلاق أن تدفع بنظام التراث والتداوليّة إلى مرحلة أرقى عبر التركيب الأخلاقيّ - إن جاز لنا القول- لتأسيس أرضيّة جديدة ومتجددة للنهوض بالفكر الإسلاميّ المعاصر؟

تتحدث في سؤالك عن ثلاثة أمور: التراث، التداولية، الأخلاق. ويمكن للناظر أن يركز على الاختلافات فيما بينها مع أنه يمكن أن يجد أيضاً رابطاً مشتركاً؛ إذ يُشكل النظر الفلسفي جذراً مركزيّاً في ثلاثتها، ويبدو فيها أثر المنهجيات الغربية الحديثة. فالتراث لفظٌ حديثٌ - وإن كان جذرُه عربيّاً وقرآنيّاً - لم يكن يعني ما نفهمه منه اليوم، فالكلمة باتت مُشبَعة بشحنات وجدانية ومضامين أيديولوجية. يوضح محمد عابد الجابري - صاحب أحد أبرز مشاريع قراءة التراث - أن التراث يتضمن "المعرفي والأيديولوجي وأساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية في الثقافة العربية الإسلامية". ويمكن أن نلحظ في قراءة التراث منهجيات عدة تتكئ على المُنجَز الغربي كالتاريخية والتأويلية والمناهج الأدبية كالبنيوية ثم التداولية. فالمنهج البنيوي والتاريخي حققا حضوراً لافتاً في قراءة التراث ونقده وسادت في التسعينيات الدراسات النصية متأثرةً بتطورات علوم اللسانيات الغربية. ولكنَّ عيب الدراسات البنيوية التي قامت لدراسة النص الأدبي أساساً: أنها تركز على النص (Text) ولا تركز على النظام بوصفه كُلاًّ، فهي تركز على بعض أجزائه التي تعتبرها ممثّلة له (وهذا عيبٌ رئيس في مشروع الجابري مثلاً وهو أنه انتقائي وتَحَكّميّ)، بينما تنصبّ التاريخية على السياق (Context)، أما التداولية فحاولت أن تسد فجوة في البنيوية من خلال إدخال عنصر الاستعمال والسياق الاجتماعي أي أن الكلام تحول إلى فعل تواصليّ وممارسة ولذلك تتناول الشروط التي يتم من خلالها توليد المعنى وهي عوامل غير لغوية.

المشكلة في دراسات المستشرقين حول القرآن والحديث أنها كانت مسكونة بهاجس الثبوت المرتكز على طريق وحيد هو المدوَّن (Written Text)، ومن ثم تَمَركزت حول دراسة "النص" منذ لحظة التدوين والبحث عن الجذور (Origins) لإعادة بناء سرديتها الخاصة عنّا والتي تراها - وحدها - "علمية" وموثوقة!. وقد تأثر بعض أصحاب مشاريع قراءة التراث بهذا التوجه حين اعتبروا أن عصر التدوين هو الذي دشّن العقل العربي أو الإسلامي وحكَمه عبر قرون، وأن النهوض لن يتحقق إلا بمراجعة جذرية لهذا العقل وهي المهمة التي داعبت خيال الجابري ومحمد أركون!. ولكن يمكن لنا أن نرصد تطورين منهجيين هنا: الأول: الانتقال عبر مناهج العلوم الاجتماعية إلى إدراك عمق التواصل بين الكلمات والأعمال، والخطاب والمجتمع، وفي هذا الإطار أستحضر الدراسة الطريفة التي قام بها رجب شانتورك عن الشبكة الاجتماعية السردية لتشريح شبكة رواية الحديث باعتبارها شبكة اجتماعية. والثاني: الخروج من ضيق المجال الواحد أو التخصص الواحد ونشوء المنهج العابر للتخصصات (Transdisciplinary) وقد قدمتُ أطروحتي للدكتوراه في هذا السياق، واشتغالي على مبحث الأخلاق الآن أيضاً من هذا الباب؛ لأنه مبحثٌ تشترك فيه مختلف التخصصات كما سأوضح.

فيما يخص "التراث" فقد انشغل به الخطابُ الفكري العربي - منذ السبعينيات من القرن الماضي – وسبق أن رصدتُ في دراسة خاصة (2010) تطورات الوعي بالتراث مفهوماً وتاريخاً، وما تَخَلل ذلك من برزو مفاهيم: إحياء التراث ونشرُه نشَرات علمية، وقراءة التراث قراءات تأويلية، ونقد التراث وتفكيكه للتحرر من سلطانه للالتحاق بالحداثة التي تَصَوروها نقيضاً له أو تَستلزم قطيعةً معه لإنجازها. إن الإطار العام الذي حَكَم هذه التوجهات هو سؤال "النهضة" وإن تَشعبت الرؤى والمسالك. ففي أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانت العودة إلى التراث ذات نزوع نهضوي وثقافي عام، ولكن مع هزيمة 1967م تَحول التراث إلى إشكالية حيث نشأ تحولان: الأول: المفاصلة والقطيعة مع الغرب وظهور مبدأ التأصيل مع بعض الإسلاميين، والثاني: بروز مشاريع القراءة التي أفرزت مواقف نقدية عديدة على مستويين: الأول: جهة المنهجيات والتأويلات، والثاني: تأمل دلالات هذه العودة الجديدة إلى التراث.

 أما فيما يخص الأخلاق فهو حقلٌ يتناول الأخلاق النظرية والتطبيقية، والأحكام المعيارية وتعليلاتها وما بعد الأخلاق (مصادر الحكم الأخلاقي)، وهو حقلٌ استأثرت به - تاريخيّاً - الفلسفةُ من اليونان إلى العصر الحديث، ورغم ثراء المعارف الإسلامية فإنها لم تخصص فرعاً معرفيّاً خاصّاً باسم "علم الأخلاق" وبقي فرعاً من فروع الحكمة العملية وفق التصور اليوناني. لكن هل معنى ذلك أن المضمون الأخلاقي والنقاش النظري المتصل بما نسميه اليوم "الأخلاق" لم يُوجَد في المعرفة الإسلامية؟ بالتأكيد لا، ويأتي اشتغالي على هذا الحقل في السنوات الأخيرة لهدفين: الأول: بلورة هذا الحقل المعرفي من داخل التراث الإسلامي؛ لأنه تَفَرَّق بين علوم عديدة: الفقه وأصول الفقه والتصوف وعلم الكلام والنوع المسمى "الآداب" التي تتوزع على فروع شتى (آداب الراوي والسامع، والمفتي والمستفتي، والطبيب، والعالم والمتعلم ...)، والهدف الثاني: بناء نظرية أخلاقية إسلامية تبني على الموروث الإسلامي الثري وتتفاعل مع النقاشات الفلسفية الحديثة، وفتح إمكانات جديدة لمعالجة قضايا الراهن الذي ترجع مشاكله إلى مأزق أخلاقي في الأساس.

ولا بد من القول: إن الانشغال بحقل الأخلاق بدأ منذ بدايات القرن العشرين وخاصةً في مصر، ولكن هذا الاهتمام خفَت في النصف الثاني من القرن العشرين الذي انساق وراء الأطروحات السياسية والأيديولوجية والتجديد الفقهي والبحث المقاصدي، وقد أنجزتُ دراسة خاصة لتأريخ التفكير الأخلاقي في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين هي قيد النشر الآن.

السؤال الخامس: كان من اللافت في الفترة الأخيرة سعي الليبراليين (وربما اليساريين أيضاً) للتهرُّب من المسؤوليّة عن بؤس الواقع العربيّ وأحوال الاجتماع السياسيّ عبر مقولة غياب "الليبراليّ الحقيقيّ"، وأن الموجود منه (كأشخاص) في المجال التداوليّ العام هو نسخة مشوّهة غير حقيقية إن كان له وجود فعليّ طبعاً. وهم بذلك يتجاهلون الليبراليّ كشخص اعتباريّ وليس كشخص طبيعيّ فقط، بالرغم من أننا لا نعدم وجوده المتمثّل في مؤسسات حقوقيّة ومجتمع مدنيّ ومراكز بحثية تشتغل منذ زمن طويل على صياغة فعاليّة ليبراليّة تتوفر لها أدوات هيمنة واسعة وهو ما لا يتوفّر لغيرها. إلى أيّ حد، برأيك، أفلحت الفعاليّة الليبراليّة في النأي بنفسها عن المساءلة وتحميل المشكلة العربيّة (والعنف المتصاعد على رأسها) للثقافة العربية والإسلامية؟ وما سبب الثقافويّة المريعة المنتشرة عربيّاً والتي يتبنّاها جُلّ الليبراليّين الفاعلين سياسيّاً وفكريّاً؟

أظن أن أحداث الثورات العربية (ومصر وسوريا خاصةً) أوضحت مدى الفقر الفكري والأخلاقي الذي يعاني منه الخطابان العلماني والإسلامي على السواء، ولكن المشهد المصري على وجه الخصوص أظهر غياب الليبرالي فعلاً مع وجود دعاوى ليبرالية عريضة، وهو جزء من حالة الانحسار الفكري والسياسي لمصر. أما بخصوص مسألة العنف فقد بحثتها في كتابات عديدة آخرها كتاب "العنف المستباح"، وفصّلت في خطَل المقاربات الثقافوية والنصية. أما المقاربة الثقافية لمشاكلنا المفتَرَضة مع العالم - ومن أبرزها العنف والإرهاب - فهي مقاربة غربية في الأصل، وقد نشرتُ مقالاً سنة 2006 في مجلة "المجلة" بعنوان: "هل مشكلاتنا مع العالم ثقافية حقّاً؟" لمناقشة هذه الفكرة، حاوِل - مثلاً - أن تستذكر السياسات الأمريكية بعد 11 سبتمبر 2001: تغيير المناهج، وتجديد الخطاب الديني، وربط العنف بالإسلام كدين، وتحديث الإسلام، وإلى جانب ذلك يمكن استحضار تفسيرات العنف على أنه "انزعاج ثقافي عميق" - على حد تعبير برنارد لويس - وأطروحتي فوكوياما وهنتنغتون حول نهاية التاريخ وصدام الحضارات وهما أطروحتان تعتمدان التأصيل الثقافي، و"أنثروبولوجيا الإسلام" التي قادها أرنست غلنر لإثبات أصولية الإسلام التأسيسي، وأطروحة "تشرذم الإسلام وفوضاه الضاربة" التي قدمها كليفورد غيرتز  إلى غير ذلك. وكان إدوارد سعيد قد نبّه في كتابه "تغطية الإسلام" إلى خطورة تلك العدوانية الثقافية والاستراتيجية على المسلمين.

ومن الواضح أن هذه الثقافوية تمت استعادتها مع داعش بخِفّة فكرية لافتة، ولكن هذا النوع من المقاربات يكشف - في الواقع - عن فقر فكري وهاجس للإدانة أو جلد الذات أكثر مما يسعى لتقديم تفسير أو مقاربة فكرية أو فلسفية، وهو - في الغالب - مدفوع بهواجس أيديولوجية، فظاهرة العنف ظاهرةٌ حديثةٌ برزت في ظل الدولة الحديثة التي تحتكر ممارسة العنف المشروع، وشرعيةُ العنف المفتَرَضة تَحولت إلى شرعية قائمة على صفة الممارِس للعنف فمجرد صدور العنف عن جهاز الدولة يجعله مشروعاً في نظر هذه المقاربة ولو تم بمعزل عن أي إطار أخلاقي أو حكم القانون، ولو صدر عن نظام دمويّ اغتصب الإرادة الشعبية، وهنا جوهر الفشل الأخلاقي المريع الذي ترتكبه مثل تلك المقاربات الثقافوية التي تتجاهل الواقع السياسي ومأزق الدولة القومية التي لم تُفلح في القيام بأدنى وظائفها وتحولت إلى أضخم آلة عرفها العصر الحديث لممارسة العنف بأشكاله المختلفة!.
د. معتز الخطيب
أستاذ المنهجية والأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
كريم محمد

باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.